د.فوزية أبو خالد
ليست ديباجة
كتبت الأسبوع ما قبل الماضي وما تلاه مقالين في عدد محدد من شؤون وشجون الثقافة على الساحة المحلية بمجتمعنا السعودي، وقد قلت فيهما: لم تغب عن سمائي لحظة الكتابة باقة من أسماء لعبت بكتابتها أدواراً صارخة هادرة أو أدواراً خافتة هادئة في محاولات التنوير على الساحة الثقافية المحلية وسط أجواء لم تكن دائماً صافية ولا ممهدة ولا آهلة إلا بالأمل، ومع ذلك لم تُقدَّر حق قدرها أو لا تعرف أجيال اليوم إلا النزر اليسير من جولاتها وصولاتها أو من جرأتها واجتهادها، بعضها من أجيال مؤسسة وبعضها أجيال مجترحة.
أما جهد هذه الأسماء وتجديدها على الساحة الثقافية، فسيكون موضوعاً أكثر من مقال لاحق.. ومن هذه الأسماء على سبيل المثال: القاص محمد علوان، عبد الكريم العودة، د. فاتنة شاكر، ود.خيرية السقاف، الشاعر أحمد عايل الفقيهي، والشاعرة هدى الدغفق وأخريات وآخرون - بإذن الله -.. وها أنا أتناول هنا قامة نزيهة في حب الوطن وفي دفع عجلة التطوير والتجديد السلمي.
الشاعر والكاتب أحمد عايل الفقيهي
لا أكتب عن أحمد عايل فقيهي لأنه أُصيب بجلطة أثّرت على يمينه وهو في ريعان شباب القلب وتوقُّد الذهن، فهو رجل لم يستسلم قط لشروط اليمين، ويستطيع متى ما أراد الكتابة باليسار إلا أنه إنسان يحب الاستقلال.. وهو عبر عمر معمّر في عشق الحرف وفتي في هوى الأبجدية، لم يكتف ككثير من الكتّاب بالكتابة بيده.. ولن يخونك لا السمع ولا البصر حين تقرأ له مقالاً أو قصيدة، فتستدل على أنك أمام إنسان اختار بعمد وإصرار وجهد إذا كتب شعراً أن يكتب بالأجنحة، وإذا كتب نثراً أن يكتب بالريشة.. ولهذا فأنا أعرف وكل من أعطى نفسه فرصة حقيقية ليعرف أبا الوليد عن قُرب يعرف، أنه رجل لن يترجّل بمجرد أن تحوم حوله حُمى أو ينازله على حين غرة من الركض اليومي مرض، كما لن يشرخ كبرياءه استغناء وظيفة عن عمله ولا تعلل بعض الأصدقاء بالمشاغل التي لا تنتهي عن زيارته والاطمئنان عليه بما يستحق من وفاء.
اقتبست هذا الأمل بتسامي الشاعر أحمد عايل فقيهي على آثار الجلطة الجسدية والمعنوية من السيدة فاطمة الزيلعي عشيرة عمره التي عاشت معه على الحلوة والمرة وعلى الخبز والملح والحبر في الشدة والرخاء، في نفس الوقت الذي كانت تعيش معه غريمتها على أحلى وأغلى ما يقدم كاتب ضميري ملتزم لغرام الكتابة من سهر الليل وقلق النهار وعز القراءة ودلال الكلمات والارتحال من مرفأ لمرفأ في أثر عطرها. قالت لي أم الوليد بزهو يكيد لحزن الزوجات المشروع عادة في مثل هذه الأوقات الأسرية الصعبة، اطمئني ليس في حياة أحمد فسحة للانكسار وليس في طريقه متسع للتراجع عن غي الكتابة، فأحمد هو أحمد لم تزده نازلة المرض إلا المزيد من التعلُّق بالشعر والفكر. ما زال أحمد لا ينام إلا معانقاً الكتب، ولا يصحو إلا على رائحة قهوة القراءة، ولا يتوب كالفراشات عن الانخطاف بشعلة الشعر، ولو كان دونها جبال وبحار.
اقتبست الأمل أيضاً في خروج أحمد على الكبوة الصحية كطائر الرعد الذي يثور على العجز، فيطلع من الحرائق كأن لم تمسه نار إلا القليل من ذهب اللهب الذي يعلق بالروح عند تصادم الكواكب، من تلك الأرض الولاّدة التي لا تتوقف عن إهداء الوطن أطول القامات أرض الجنوب السعودي ما وراء جبال السروات وسريرة البحر الأحمر... «دستور يا الساحل الغربي»!!.
اقتبست الأمل في بقاء أحمد راية للثقافة المستنيرة في قراءاته، وللقلم النزيه فيما يكتب مما يجتمع في جيزان من جموح وتواضع في مزيج جريء وتركيبة مربكة لتلك المناطق التي ولدت على طبق من حظوة الجغرافيا أو السياسة والتاريخ.. فأول مرة هاتفني أحمد ليسمعني قصيدة من قصائده التفعيلية المشحونة بصبابات صبيا وصامتة وجزر فرسان، كانت من جيزان، وكان ذلك في مطلع الثمانينيات في أوج مرحلة شعر التفعيلة بمدن المملكة الرئيسة الرياض وجدة والظهران.
فدخل أحمد بجيزان على خط التجديد الشعري دون أن يحسب حساباً لتهمة الجرائر المحتملة جراء تهديد النور للظلام. كان ذلك قبل أن ينتقل وعائلته من جيزان إلى جدة ليعمل بجريدة عكاظ وتفتح له نافذة عامود أسبوعي كل خميس - مطل الرمل ليمد منه أعناق البلاد على آخر طروحات المد الفكري العربي التجديدي لتلك المرحلة. فكتب عن مؤلفات هشام الشرابي مثل كتاب مقدمة لدراسة المجتمع العربي في وقت لم تكن مدرسة ذلك الكتاب في الفكر السيسيولوجي النقدي شائعة إلا عند القليل جداً من المثقفين. كتب عن أُطروحة حليم بركات في نقد النظام الاجتماعي العربي، كما كتب منتقداً سعد إبراهيم في أطروحته عن مثقف الأمير مشيراً لمقابله الموضوعي مثقف الضمير. تناول بعضاً من كتب الكاتب الكويتي السيسيولوجي ورئيس تحرير مجلة العربي الشهيرة محمد الرميحي مما تناول فيها الرميحي النظام الاجتماعي والسياسي لمنطقة الخليج بقراءات نقدية وقتها.
كما احتفى أحمد تقديراً أو نقداً بعدد آخر من الكتّاب العرب في ذلك السياق من الفكر العروبي التجديدي والنقدي مثل كتابات محمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وعلي حرب، وحسين مروة. انشغل عددٌ آخر من مقالاته بكتابات الأدب والشعر في الأفق العربي.. فكما تناول كتابات حليم بركات السيسيولوجية كأستاذ دولي في علم الاجتماع السياسي، كتب عن حليم بركات الروائي كصاحب عدد من الروايات العربية اللافتة منذ الستينيات مثل رواية ستة أيام التي اعتبرها النقّاد في تلك الفترة الموغلة نبوءة بما سُمي بنكسة الأيام الستة من حزيران 1967م.. وبالمثل كتب عن روائيين مثل: الغيطاني، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، صاحب الخبز الحافي. كتب مقالات أيضاً عن لقاءاته العفوية في بعض المؤتمرات ببعض رموز التجديد الشعري العربي مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعر الأممي أدونيس، وشعراء من المغرب مثل: حسن نجمي، ومحمد بنيس، وكتب بحب وإعجاب عن تجربة الشاعر البحريني قاسم حداد.. هذا بالإضافة لطيف عريض من الموضوعات المتنوعة التي تناولتها كتابته المقالية.
هو حسبما شهدت أقولها شهادة لله من المثقفين القلة الذين وجدت في بناتهم وأولادهم اهتماماً بما يكتب الأهل، وإيماناً بقضاياهم، وإن كانت لهم حرية آرائهم المختلفة، يمدون حبال الود والوفاء مع أصدقاء الأسرة.. فلم أحتج إلى جهد، بل الفضل لأحمد وفاطمة ولشبابهم في أن تنعقد صداقة نادرة بيني وبين بنتيه الجميلتين رنا ورفيف، وابنيه الرائعين الوليد وهشام.
لا شك أن أحمد محظوظ بتلك المرأة الجنوبية - أم الوليد التي تقطر حباً للثقافة وللوطن ولأحمد وللشعر، ولكني لا أقل حظاً عنه في أن تكون تلك السيدة المكللة بالفل والكادي من أقرب صديقاتي.
قد يعتبر بعضٌ ممن يعرف أحمد عايل فقيهي معرفة فكرية ووجدانية حقّة أنني كتبت مقصرة في حقه، وهذا حق. وبالمقابل فقد يعتبر من لم يتابع أحمد متابعة قريبة في كتاباته الشعرية والنثرية أن في الأمر مجاملة معاذ الله.. لهذا فإنني أعلق على عاتق الزميل والصديق أحمد عايل الفقيهي نفسه، و»الملهمين بتوثيق تلك المرحلة كما فعل الشاعر علي الدميني بأعمال عبد العزيز المشري الإبداعية»، وكما فعل الشاعر أحمد العلي بأعمال المفكر والشاعر الكبير علي العلي، ولا أعوّل على المؤسسات الثقافية الرسمية، أمانة جمع أعمال أحمد شعراً ونثراً المتشظيّة في الصحافة، وإن أراد يعكف عليها ليحررها من جديد في كتب حسب المجال والموضوع.. ومثل هذا العمل أمر مطلوب إن لم يكن من أجله ومن أجلنا، فمن أجل المحافظة على صفحة جادة من التاريخ الاجتماعي والأدبي لمرحلة هامة من المدّ والجزر والسجال والتوتر التحولي بما مثّلته تجربة جيل الثمانينيات من الكتّاب والشعراء السعوديين على ساحة العمل الثقافي.