د.فوزية أبو خالد
مسيرة الساحة الثقافية القريبة بين التصنيف وجهل الأجيال الجديدة برموزها من مسلَّمات العلوم الاجتماعية أنه لا يمكن قراءة أي ظاهرة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، ولا كتابة مستقبل جديد لأي منها، دون معرفة الواقع معرفة تحرٍّ دقيق، ومعرفة تحليل نقدي مبصر.
وفي هذا - بما أنني لستُ متأكدة بعد ماذا أسمي كلاً من الظاهرتين اللتين أريد التطرق إليهما في هذا المقال - فإني أحيل إلى فصلَيْ عقل الصراعات والعقل الثقافي من كتاب عبدالعزيز الخضر وكتاب أزمنة الحرية لعلي الدميني وعدد من كتابات د. عبدالله الغذامي، منها حكايته مع الحداثة.
الظاهرة الأولى التي لا أعرف كيف أفسرها، ولا أستطيع أن أفهمها, هي - بتبسيط في واقعه مخل بتعقيدها، وغير معبِّر عن تعريفها - تلك الظاهرة المتمثلة في الميل إلى تصنيف المثقفين لبعضهم البعض أحيانًا، ومن قِبل الجمهور أحيانًا. تصنيفات تصفوية، تتسم بالشمولية والأحادية. وهي تشكِّل حالة تصنيفية أدنى من الشللية في تشرنقها المزاجي المهلهل، وأضيق من الحزبية القمعية في انعدام أفقها وصرامتها الإقصائية.
وربما تكون هذه الظاهرة خلف ما جعل الكثير من المثقفين يذهبون إلى الظل قبل أوانهم؛ لا لشيء إلا لأنهم صنفوا تصنيفات تصفوية؛ مسحت رصيد إنتاجهم بالضربة القاضية لحساب هذا التصنيف وذاك، أو بالمقابل لأنهم لم يكونوا على مقاس أي من تلك التصنيفات. فالشدة فتك وضراوة التصنيف, أن من لا تصنيف له يخرج من اللعبة باكرًا، ويزاح من دائرة الضوء حتى لو كان في عنفوان عطائه، أو لو كان قد قدم في مراحل سابقة ما يعتد به. وهو في المحصلة النهائية يشترك في الخسارات مع المحشورين في خانات التصنيف الخانقة.
فالمتابعة لحركة التاريخ الاجتماعي والسياسي على مستوى الساحة الثقافية تدل على أن الظاهرة الأولى (أي ظاهرة التصنيف) قد وُلدت في حضن أحادية الفكر المتشدد، ولا يزال الواقع يحتفظ بجيوب حاضنة لها.. فإذا كانت هجمة الثمانينيات الإقصائية المرتكبة في حق كل من كان يفكر خارج الصندوق، أو يكتب خارج قوالب القول التقليدي، قد شرعت الأبواب، واستنت سنة سيئة باجتراح تصنيف «الحداثيين»؛ لشن حرب التصنيفات التصفوية, فإن المناخ الثقافي - وبعد مرور ما يقارب ربع قرن على تلك الهجمة - لم يُشفَ من فيروس التصنيف.
والسؤال هو: كيف نتخلص ونعالج واقعنا الثقافي من فيروس التصنيف الذي يصادر الكتابة ومصائر الكتاب على أهواء تصنيفات ذات هوى استحواذي؟!
أما الظاهرة الأخرى التي أريد تسليط الضوء عليها في هذا المقال - وهي لا تقل غرابة في الوسط الثقافي عن الظاهرة الأولى - فهي ظاهرة التناسي أو التنكر الجيلي أو قصر الذاكرة.. وهي ظاهرة شبيهة بحالة النسيان العمري معكوسًا؛ فبينما في نسيان المسنين تنشط الذاكرة المبكرة، وتتراجع الذاكرة القريبة, فإن ما عليه الأمر في ظاهرة التناسي الجيلي أن هناك من الأجيال الجديدة من يظن أن الحياة قد بدأت بوعيه النقدي الجديد وحده، وأن كل من سبقوه لم يقدموا شيئًا يُذكر أو يستحق البناء عليه أو الانطلاق منه. بل إن الأنكى أن لا تحفل أجيال لاحقة ولا تنجح حتى لو أرادت على إحداث قطيعة معرفية ذكية ومبصرة مع ما سبقها؛ لأنها لا تعرف شيئًا عما سبقها.
ومثل هذه الظاهرة قد تكون المسؤولة عن إنتاج عملية الإزاحات والانسحاب التي تشوب علاقة الأجيال على ساحة العمل الثقافي وعلى مطلات وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا.
والغريب أنه بينما كانت أجيال من المثقفين الذين فتحت عيني عليها بالسبعينيات الميلادية مثل من سبق وسميتهم بمدرسة المشاغبين، ومنهم عبدالله جفري ومشعل السديري ومحمد عبدالواحد وعبدالله مناع وعبدالله نور وعبدالله الماجد وعلوي الصافي وسعد الحميدين وحمزة بوقري، تتعطش لمد خيط ولو رفيع أو متخيل من خيوط الفكر والأدب والكتابة بالصحف مع الأجيال التي سبقتها، مثل محمد حسن عواد وعبدالله بن خميس وحمد الجاسر ومحمد حسين زيدان وعبدالكريم الجهيمان والقصيمي وحمد الجاسر وعزيز ضياء وعبدالله عبدالجبار وحمزة شحاتة وعبدالله بن إدريس, فإننا نادرًا ما نصادف مثل هذا التواشج أو الحرص على مد عرائش الوصل بين المتجايلين في المرحلة المتأخرة. بل يبلغ الأمر أحيانًا حد جهل الأجيال الشابة بالأثر التحولي الذي قامت به أجيال من الكاتبات والكتاب على ساحة الثقافة المحلية في مراحل متعددة من مد وجزر الواقع السياسي والاجتماعي بالمجتمع السعودي.
قد يكون لتناثر معظم كتابات جيلي والأجيال السابقة أو اللاحقة في الصحف، وتبعثرها بين ملاحق الثقافة والأدب لتلك الصحف وبعض المواقع والمدونات الإلكترونية في العقدين الأخيرين, مع ندرة إصدارات الكتب, يد طولى في جهل أجيال جديدة بمجهود أجيال نافحت في التأسيس لفضاء تجديد الشكل والمضمون في الإنتاج المكتوب على الساحة الثقافية المحلية. وبهذا المقياس يُعتبر عملاً عظيمًا وهدية ثمينة للأجيال ذلك العمل الذي قام به الشاعر الشاب أحمد العلي في جمع وتحرير الكثير من مقالات ومحاضرات الشاعر الطاعن في العشق محمد العلي، وتحويلها إلى كتب في متناول المهتمين بعد أن كانت أحلامًا شاسعة متشظية في الصحف. وكذلك الجهد الذي قامت به فوزية العيوني في تقديم نسخة مصغرة من كتاب أحمد عدنان عن تجربة محمد سعيد طيب.
وتبقى أسئلة عالقة بين القلب والعقل، تحرج الحنجرة، وتستجرح الذاكرة.. ومن تلك الأسئلة سؤال: كيف يمكن أن نسجل تاريخنا الثقافي القريب، ونعيد الاعتبار لرموزه؛ لنكتب مستقبلاً جديدًا بأكثر من يد، وبأطياف من الأشكال والمضامين الثقافية الحرة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لم يغب عن سمائي وأنا أكتب هذا المقال باقة من أسماء لعبت بكتابتها أدوارًا صارخة هادرة، أو أدوارًا خافتة هادئة في محاولات التنوير على الساحة الثقافية المحلية، وسط أجواء لم تكن دائمًا صافية ولا ممهدة ولا آهلة إلا بالأمل، ومع ذلك لم تقدر حق قدرها، أو لا تعرف أجيال اليوم إلا النزر اليسير من جولاتها وصولاتها، أو من جرأتها واجتهادها. بعضها من أجيال مؤسسة، وبعضها أجيال مجترحة.
أما جهد هذه الأسماء وتجديدها على الساحة الثقافية فسيكون موضوع مقال لاحق.. ومن هذه الأسماء على سبيل المثال: القاص محمد علوان, عبدالكريم العودة, د. فاتنة شاكر، د. خيرية السقاف, الشاعر أحمد عايل الفقيهي، الشاعرة هدى الدغفق وأخريات وآخرون بإذن الله.