أحمد الدويحي
يقع الكتاب في ما يقارب 240 صفحة، ويحمل 43 فصلاً ليس ممكناً سبر أغوارها كلها أو على الأقل عرضها، ومؤلمُ جداً أنني سأضطر لتجاوز فصول جد مهمة، تفرض ذلك عليه المساحة المخصصة للزاوية، وسأتجول للمقاربة بين مساحات الحزن والفرح والمتعة في آن، وتلك مهمة شاقة لا تكون إلا في اليمن، عرّف كاتب نابه اصطياد تلك اللحظات بمهارة ووعي مدهش، وسنترحل إلى محطات صنعاء اليمن مع الصديق المبدع علي الأمير، وسنقرأ معه دعاء السفر، وأدعية أخرى في التوكل على الله، ولفّها في إيمان عميق وسط الجبال، ورهبة الليل في وادي اسمُه شّرٍسٌ.
أسماء وأمكنة وأزمنة تتداخل في محطات الرحلة الكتابية، وتحضر تفاصيلها الذاتية بين محطات علي طالباً ومعلماً، سنكتشفها لما يدخلنا معه إلى المعاني الصنعانية البديعة، وهذه إحدى مفاتيح تجليات النص، قراءة قصيدة ( قرين ) للشاعر محمد الثبيتي في بيت المزاج اليمني، وعلى مهلٍ جداً :
لِي ولَكْ
نَجْمَتَانِ وبُرْجَانِ فِي شُرُفَاتِ الفَلَكْ
ولَنَا مَطَرٌ واحِدٌ
كُلّمَا بَلَّ نَاصِيَتِي بَلَّلَكْ
سَادِرَانِ عَلَى الرَّمْسِ نَبْكِي
ونَنْدُبُ شَمْساً تَهَاوتْ
وبَدْراً هَلَكْ
ثقل صمت الساعة السليمانية لن يطول، فسيتقاطر على جسد الكتابة حشدُ من الأصدقاء، وفي الذاكرة رحلة مع العظيم محمد الثبيتي رحمه الله إلى اليمن، سمعته يقرأ قصائده بصوته الأجش المدهش، ورأيت الإقبال على سماع شعره، وتأكدت أن الناس هنا - تحفظ المعاني النبيلة في قصائده، ولكن لا بد من توضيح دلالة المعنى في إلقاء الشاعر علي الأمير في بيت المزاج اليمني، قصيدة القرين للشاعر محمد الثبيتي، فالناقد الأمير أنجز ( دراسة اسلوبية ) الثبيتي يتلو أسارير البلاد، الإيقاع ومقاربات المعني في ترتيلة البدء، وغداً سيكون على موعد في كلية الآداب جامعة صنعاء، وتستهويني بداية حكاية وحيداً في صنعاء، يكشف نهاية بعد الوداع في تقاطعات سردية، وترميم يضيء ذاكرة البدايات في لحظات التنوير، إذ تبدأ الحكاية من لحظة وصوله للجامعة، والحديث مع أستاذة القسم الدكتورة والشاعرة ابتسام المتوكل ( التي أصبحت لاحقاً زوجة السعودي محمد زايد الألمعي )، قالت له :
هذا أكثر واحد يفيدك عن موضوعات وطريقة الاختبار، لأنه اختبر إلى الآن مرتين، ولم يُقّبل، وسيختبر معكـ في الثالثة . .
البداية مكان خربة، بيت طينيّ تهدم معظمه، ووحيداً في صنعاء، يحاور جاكسبون، أمرتو إيكو، وجوليا كرستيفا، وبقية شلة الألسنين، الذين توزعوا تركة سوسير وبيرس.
ونهاية، إذ يضئ النموذج لحظة التنوير في الكتابة السردية، مسافة من الزمن، تكشف المستور منذ شكلته البدايات، ورفض أو اعتذر أو عجز علي الأمير، سرد سيرة هذا النموذج، أو ذكر اسمه في نسيج الكتابة، وقال نسي أن يعرفنّي على نفسه . . وبقي في خربته، لتأتي رسالة منه في الفيس بوكـ . . لتضئ المشهد بعد ليليتين من الانفجارات الهائلة التي شهدها فج عطان، كتب :
يا علي أنا بخير، حبيت أطمنك عني، وأبشرك أنا تزوجت، وفصلت بدلة جديدة يوم زواجي، وأصبح عندي ولد، اسمه ( . . . ) وأكيد تتساءل أنا مع مين أنا ؟، أنا مع اليمن يا علي، أقف في خندق ولدي وأمه وحسب.
هذا نموذج، ما أكثر وأجمل مرة أخرى، نماذج الشعب اليمني الشقيق التي جاءت في أحشاء صنعاء الكتابية، جاءت في رحلة طويلة مع الأساطير والغناء اليمني والوجع والفرح والخوف والتاريخ والحرب والحب، رحلة في كل جهات اليمن، سنسرج عباءة الذاكرة، لكي لا نخرج من الموضوع وصنعاء بين أيدينا: ( كانت امرأةُ هبطت في ثياب الندى ثم صارت مدينة ) كما وصفها الدكتور المقالح، تأخذننا إلى سموات تلك المعاني الصنعانية التي أرادها علي الأمير، وفضّلها لتكون كلاماً لغلاف كتاب صنعاء، تأويل الغيم . . وسورات النرجس.
أريدها كلها أن تكون في متناول يدي، أريد أن أراها في سلالٍ من الدهشة الحية، قمرياتها اليانعة، التماع عينّها المشع بالعسل، أزقتها المأهولة بالأسرار وبالغمزات التي تدوي داخل الروح، كشكشة ملائكتها تطرقُ سمعي، وغموضها البض تخنقه ستارة صنعانية، أريد أن أنفذ من رخام حديثها إلى بحة التوت الغافي خلف كحلها، أريد أن أشهد مخاتلة الريح للأغاني الغافلة في صنعاء . . أريدها أن تنثال عليّ نسوة ومآذن، عبق تاريخ، وصخب أزمنة طرية، أريدها غيمة بخور عدني، تمطرني مزاهر وشمعدانيات وكعكاً، أريدها زغاريد يلهبُها جموح الحنا الحرازي، نعاس بلقيس المعجون بالرغبة يوم النقش، انفلات شرشفها بين الورد والياجور، اتكاء الحلم قربّ نفير شامتها، خشوع الذنب منكسراً على سجاد خصلتها، بزوغ المغفرة كالشمس من صنعاء إذا ابتسمت . . أريدها كل هذا وأكثر، مع قليل من الأصدقاء.
والواقع أننا سنعجز عن إحصاء، أصدقاء الرحلة الكتابية ونماذجها من داخل صنعاء وخارجها، ولن أختم في هذا السياق بدون ذكر بعض الأسماء، وبرجاء وأمل ألا يكن هذا الإيجاز والتلخيص المبتسر المختزل، يخلُ بقيمة كتابة شاملة كما ذكرت منذ البداية، فقد رحلت مع قراءة في جماليات ومتعة كتابية رحلة هائلة، وإذ سنقف مع رحلات في داخل الرحلة، سنحط في تفاصيل أولها وهي رحلة كانت مفاجأة، زيارة للوالد متعه الله بالصحة والعافية لليمن الغامضة، تكشفت عن عملية جراحية بالمستشفى السعودي الألماني باليمن، وغادر سليماً معافى بإذن الله إلى جيزان.
البروفسور أحمد الزيلعي عضو مجلس الشورى، وأستاذ التاريخ الإسلامي والآثار والنقوش الإسلامية بجامعة الملك سعود، ورئيس مجلة التاريخ والآثار لدول مجلس الخليج العربي، جاء ليكسر سلسلة زيارات رسمية علمية لليمن، ليذهب بحرية في رحلة إلى حيثما كانت حضارة اليمن التاريخية.
عبد الله الصيخان : رجلُ ودودُ خُلق للشعر، حياته معجونة بالشعر، والكرم غريمه الذي أشقاه، هكذا وصف علي الأمير صديقه وصديقنا الشاعر عبد الله الصيخان، وكانا في أمسية شعرية في الملحقية الثقافية السعودية بصنعاء.
الموكلي والسيد: يقول علي الأمير: إن أوتار العود لا تشجينا إلا مجتمعة، وكذلكـ أصحابي، هم جوقة فن الحياة، وأصابع الشمس، وألوان الطيف، حين تدوزنها الصحبة مجتمعة، أبو عبد الله وأبو محمد ( أبو أروى )، ويقصد بهما الشاعرين أحمد السيد عطيف وعبد الرحمن موكلي، وهما حكاية من الفتنة الممتعة التي لا تنتهي كما هي متعة كتاب صنعاء، صنعاء التي نصلي لكي تعود لبهجتها، وتنتهي كربتها ومحنتها..
وحتماً، لا يمكن أن تكون النهاية، إلا بهذه النبؤة الشعرية للمقالح :
قلتُ لكم والمد لم يزل بعيداً
والبحر لم يزل بعيداً
أن تفتحوا عيونكم على الخطر
. . .
لكنكم لم تسمعوا، تعالت الضحكات ُ
في ردهات القات
أقعى الضمير في دياركم، ومات
فكان هذا الهول، والأحزان. *
** ** **
* من قصيدة في ديوانه الأول : لابد من صنعاء 1971م