محمد عبد الرزاق القشعمي
ويقول عبدالرحمن – ابنه – إن علاج والده (للشيوخ) عبارة عن قطرات للعيون وأعشاب للجهاز الهضمي ودهونات للجسم وحقن عضلية ونحوها. ويستطرد قائلا: إن وباء الجدري قد استشرى بشكل مخيف وبصورة مفاجئة، ولم يكن لديه أمصال للتطعيم تكفي لعدد كبير مما خاف أن ينتهي فيخسر سمعته ففكر في وسيلة الحصول على (الدواء) قبل اكتشاف أمر نفاد ما لديه. فكان لديهم حوش مليء بالأغنام فأخذ خروفا وقام بحلق شعره المحيط ببطنه بالكامل ثم قام بتطعيمه في أربعة أمكنة وقام بعد ذلك بتعليقه بواسطة حبال في السقف وكان يهدف من وراء هذا العمل المحافظة على بطنه من التلوث لمدة كافية لنجاح التطعيم وكان يسقيه مريس التمر والماء، وبعد يومين وجد أن الدواء أخذ مفعوله ونجح الطعم في جميع الأمكنة ففرح فرحاً كبيراً واتجه إلى القبلة وشكر الله. وبعد يومين آخرين كبرت مواقع التطعيم في بطن الخروف مما مكنه من استحلاب فيروس الجدري بواسطة وخزه بإبرة (وعصره) حلبه في آنية زجاجية ويصفيه بواسطة قماش (شاش) نظيف وتمكن من تعبئة بعض القوارير وحفظه وتطعيم المرضى بالجدري بعد ذلك.
وفي هذه المناسبة فقد أمر الملك عبدالعزيز بتشكيل حملة كبيرة على شكل قوافل لجميع أنحاء الجزيرة من مدن وقرى وهجر للقضاء على هذا الوباء.
ويقول إن والده لم يكن لديه الوقت الكافي للسفر لإحضار الأدوية والأمصال الكافية لمكافحة الجدري مما جعله يبتكر هذا الحل، أما ما حصل للخروف بعد ذلك فيذكر أن صحته قد تدهورت وأن شفاءه لم يعد ممكناً مما حمل والده إلى ذبحه ودفنه في مكان بعيد عن السكن.
ويقول إن العطارين لا يوجدون في نجد فقد كان تواجدهم مقتصراً على الحجاز ومع ذلك لا يوجد لديهم كل الأعشاب المطلوبة مما يضطره إلى السفر خارج الوطن بواسطة الجمال وضمن قوافل لإحضار حاجته من الأدوية والأعشاب وغيرها ويذكر أن والده كان يستقبل مرضاه أو من يريد نصحه في منزله قبل أن ينقل صندوقه (الصيدلية) إلى الصفاة وكان ابنه عبدالرحمن في شبابه المبكر فيروي قائلاً: «أنه سمع الباب يطرق وإذا بشاب بالعشرين من عمره قد كست الدماء ثوبه وقد لف أحد أطراف غترته على عينه اليسرى وهو يسأل هل هذا بيت الدكتور/ الرحيمي فأجبته بنعم وأدخلته على والدي حيث يجلس بالمصباح (الصالة) المقابلة للباب من الداخل والمسقوفة ليستظل بها الجالسون فسلم عليه وسأله عما به فقال إنه كان يصطاد الطيور في المزارع وكان يركض خلف طير مصاب فوقع في حجر نخلة غريس ولم يدر إلا وقد انغرست شوكة في وسط عينه وانكسرت داخلها. وإنه ذهب للصحية – وقتها مستوصف صغير (بالقري) – وإن الدكتور قال له: لا مجال لنزع الشوكة إلا والعين معها وإنه ليس لديهم أي معدات لإجراء عملية ولهذا أتيت إليك فأجابه والده بعد تفكير وهل لديك مقدرة لتحمل الألم؟؟ فأجابه بأنني سأحاول!! فقال إذن ستسلم عينك إن شاء الله. فقام والده وحفر حفرة في المصباح وأوقد ناراً فأحضر رأس بصل وشواه بقشره ثم ردم الحفرة بالرمل الحار ووضع فوقها رأس البصل، ثم قام بتحضير بعض الأعشاب المسحوقة والمخلوطة بشيء من الملح ومزجها بقليل من الماء وغطاها بجواره ثم طلب من الشاب المريض أن (ينبطح) على بطنه بعد أن أخرج رأس البصل من (الملّة) الرمل الحار ففتح البصلة وأخرج ما في وسطها ووضعها مكورة على الأرض وطلب من الشاب أن يدخل عينه في هذه الفتحة الحارة من البصل ويفتح عينه داخلها قدر المستطاع ولا يغمضها ثم أمسك بكتفية ليزيد من شجاعته ويضغط أكثر على كتفيه ومضى حوالي ربع ساعة ثم قلبه على ظهره والبصل ما زال باقيًّا مكانه على الأرض وإذا بنا نرى الشوكة قد خرجت وبقيت بين الجفون فأوقف نزيف الدم بقليل من الكحل (الإثمد والجاوي) وحشاه داخلها. ثم وضع عليها مجموعة الأعشاب التي سبق إعدادها ولف عليها رباطاً من الشاش وأبقاه قليلا حتى خف ألمه فطلب منه والده إيصاله إلى منزله لعدم قدرته على الرؤية بعينه السليمة لتأثرها بما أصاب أختها من حرارة النار. وبعد ثلاثة أيام عاد الشاب سليماً شاكراً لوالده حيث سلمه مبلغ ثلاثمائة ريافضة.
ويسترسل ابنه – عبدالرحمن - برواية كيفية تصنيفه للأدوية واستخراجها من الأعشاب قائلا إنه كان يقوم بتحضير أشربة مختلفة لعدة أمراض وكذلك يقوم بتجهيز حبوب (برشام) لعدة أمراض أخرى وكذا (كحل العين) وحسب ما يناسبها من أمراض، ولديه كراتين مختلفة من الأواني الزجاجية الجديدة (قوارير). ويقوم أيضاً باستخراج زيوت من الأعشاب لعدة أمراض كالروماتيزم وآلام الظهر والركب فكان لدينا معمل متواضع لصنع الأدوية يعج بالحركة الدائمة ولا أنسى أصوات الهاون (النجر) حيث إنه وأخوته وأقرباءه الزوار مخصصون لتلك العملية وهي دق الأدوية بالهاونات وسحقها والبعض مجروشاً.
وقد توفي رحمه الله عام 1391هـ بمدينة الرياض ويبلغ من العمر (مائة عام).
فقد تكون مثل هذه القصة مدخلاً لمعرفة وتتبع مثل هذا الرجل للحصول على معلومات توثيقية لبدايات معرفة بلادنا للعلاج الصحي الحديث وكيف كان الجيل الماضي يكافح الأمراض ويقضي على الأوبئة عند انتشارها رغم الإمكانات الشحيحة. وهي دعوة لمن لديهم معلومات لتسجيلها أو كتابتها لتكون لبنة في بناء متكامل يستدل به على مثل: الرحيمي وابن محمود والصمعاني وغيرهم ممن عمل وقدم ما يستطيعه من خدمة. وهدفه إلى جانب التجارة سد العجز وتقديم ما يتوفر لخدمة المصلحة العامة.
وقد تكون (جدة) بحكم موقعها الجغرافي كميناء رئيسي وطريق للحجاج إلى (مكة المكرمة) أقدم معرفة بمحلات بيع الأدوية بشكل أفضل من محلات (العطارة) المعروفة من القدم فالعطارون منتشرون بدلاً من (الصيادلة) في ذلك الوقت فلهذا تقول المطربة (سهام رفقي) في إحدى أغانيها:
يا عطارين دلوني
الصبر فين ألاقيه
يقول الأستاذ/ حسين بافقيه في عرضه لكتاب (حكايات العطارين في جدة القديمة) نشر دار البلاد للطباعة والنشر بجدة للمؤلف عبدالعزيز عمر أبو زيد يقول: (.. إن بوركهارت استطاع أن يحصي 18 محلاً للعطارة في أوائل القرن التاسع عشر.. ويذكر أبو زيد دخول الصيدلية بمفهومها الطبي الحديث حيث ظهرت أول صيدلية في مدينة جدة القديمة تحت اسم محل بيع أدوية بالمفرق عام 1361هـ قبل هدم السور بسنوات معدودة لصاحبها سعيد تمر.. كما افتتح عبدالرؤوف بترجي الصيدلية الثانية عام 1363هـ ثم أخذت المنافسة منحى جديداً حينما افتتح عبدالحميد الرويحي في العام ذاته صيدلية ثالثة، وهكذا.. حتى عرف أول مستشفى بجدة عام 1365هـ.