أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
وَعِنْدَ خُرُوجِ الرَّجُلِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْخَيْطُ بِيَدِهِ، قَاسَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَعَبَّرَنِي فِي الْمِيَاهِ، وَالْمِيَاهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي فِي الْمِيَاهِ، وَالْمِيَاهُ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي، وَالْمِيَاهُ إِلَى الْحَقْوَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا، وَإِذَا بِنَهْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ عُبُورَهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ طَمَتْ، مِيَاهَ سِبَاحَةٍ، نَهْرٍ لاَ يُعْبَرُ. وَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ؟». ثُمَّ ذَهَبَ بِي وَأَرْجَعَنِي إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ. وَعِنْدَ رُجُوعِي إِذَا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ. وَقَالَ لِي: «هذِهِ الْمِيَاهُ خَارِجَةٌ إِلَى الدَّائِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَتَنْزِلُ إِلَى (الْعَرَبَةِ) وَتَذْهَبُ إِلَى (الْبَحْرِ). إِلَى الْبَحْرِ هِيَ خَارِجَةٌ فَتُشْفَى الْمِيَاهُ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ حَيْثُمَا يَأْتِي النَّهْرَان ِ تَحْيَا. وَيَكُونُ السَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا لأَنَّ هذِهِ الْمِيَاهَ تَأْتِي إِلَى هُنَاكَ فَتُشْفَى، وَيَحْيَا كُلُّ مَا يَأْتِي النَّهْرُ إِلَيْهِ. وَيَكُونُ الصَّيَّادُونَ وَاقِفِينَ عَلَيْهِ. مِنْ (عَيْنِ جَدْيٍ) إِلَى (عَيْنِ عِجْلاَيِمَ) يَكُونُ لِبَسْطِ الشِّبَاكِ، وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَسَمَكِ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا جِدًّا. أَمَّا غَمِقَاتُهُ وَبِرَكُهُ فَلاَ تُشْفَى. تُجْعَلُ لِلْمِلْحِ. وَعَلَى النَّهْرِ يَنْبُتُ عَلَى شَاطِئِهِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كُلُّ شَجَرٍ لِلأَكْلِ، لاَ يَذْبُلُ وَرَقُهُ وَلاَ يَنْقَطِعُ ثَمَرُهُ. كُلَّ شَهْرٍ يُبَكِّرُ لأَنَّ مِيَاهَهُ خَارِجَةٌ مِنَ (الْمَقْدِسِ)، وَيَكُونُ ثَمَرُهُ لِلأَكْلِ وَوَرَقُهُ لِلدَّوَاءِ. «هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هذَا هُوَ التُّخْمُ الَّذِي بِهِ تَمْتَلِكُونَ الأَرْضَ بِحَسَبِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ»(1)...».
ويستمرّ على هذا المنوال الحكائي المتخيّل. فما الغريب، وقد استحضر (اللهَ) تعالَى في هذه الحكاية، أن يستحضر (أورشليم) على جبلٍ شامخ، أو في السماء أو على الأرض، أو أن يصوِّر الأنهار تجري من تحتها؟! وللمياه دلالاتها الرمزيَّة لا الواقعيَّة في مثل هذا السياق، ألمحَ السِّفرُ إلى ذلك بوصف صوت إله إسرائيل، قائلًا: «وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ»- وكذا للأشجار الخرافيَّة الحافّة به دلالاتها الرمزيَّة.
إنها لوحةٌ حُلْميَّة عن جنَّةٍ موعودة، لدى أسيرٍ، وصورةٌ نفسيَّة عن فردوس مفقود، يعزِّي قومَه بالعودة إليه على هذا النحو الأدبي المجنَّح. فأن يأتي باحث ليُدقِّق في تفاصيل هذه «اليوتوبيا» لينفي المكان المقصود فيها لأن الوصف لا ينطبق عليه- هذا على الرغم من الإشارات إلى المواضع: «نهر الخابور، وداي عَربة، البحر، عين جَدْيٍ، عين عِجْلايِم، المَقْدِس»- فمعنى ذلك أنه يتجاهل طبيعة النصّ النوعيَّة ووظيفته التعبيريَّة، ليُلبسه قميصَ وثيقةٍ عِلْميَّةٍ ليس لها بأهل، ثم يبني عليها استنتاجاته. وإن نصًّا كهذا ما ينبغي أن يُقرأ قراءة تاريخيَّة، بل قراءة أدبيَّة. والمؤرِّخ إنْ قرأه تلك القراءة التاريخيَّة السطحيَّة، الواثقة بظاهر الكلمات، طالبناه بالإتيان بمكانٍ على وجه الكُرَة الأرضيَّة تنطبق عليه تلك الأوصاف الخياليَّة والوقائع المرسومة بحذافيرها، ولن يجد. فما بُني على خيال إنما أرضه عالم الخيال، وما أُنشئ على رموزيَّات نفسيَّة وميثولوجيَّة إنما موقعه في فنّ التصوير الأُسطوري الحالم، لا في (شامٍ) ولا في (يَمَن). وهذا نموذج من أوهام المؤرِّخين في قراءة النصوص ذات الطابع الأدبي، التي لا يفقهون طبيعتها، ولا يدركون وظيفتها، ولا يحسنون قراءتها النوعيَّة؛ فيتعاملون معها تعاملهم مع ما اعتادوا من وثائق إخباريَّة.
... ... ...
(1) أسباط إسرائيل الاثنا عشر، كما هو معروف، هم: رأوبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، وإفرايم، ومنسا، وبنيامين، ودان، وآشر، ونفتالي.