د. جاسر الحربش
لا أعتقد أن سيفا سيرفع وخصما سيقتل لو كان التمذهب مجرد اجتهادات خالصة في درجات الإيمان والتقوى. الجهاد بمعناه الأصلي، جهاد التقوى والإخلاص لنشر الإسلام انتهى مبكرا ً جدا، واحتلت مكانه فتوحات الزعامات والقيادات. أصبح الموضوع فيه أموال ونساء وقصور وسرر وأرائك، أي موائد باذخة وجوار يرقصن وغلمان يطوفون. منذ ذلك الزمن بدأ انتقال الاهتمام بمكافأة ما بعد الموت إلى الاهتمام بمكافأة الحياة، ولكن العقدة التاريخية بقيت في الضرورة والحاجة الماسة للاحتفاظ بالمسمى الأصلي «الجهاد».
أصبح الاحتفاظ بمسمى الجهاد يحتاج إلى فقه وفقيه، يحتاج إلى محلل ومحرم لأغراض التقريب الإقصاء، وأهم من ذلك يحتاج إلى مكفر لعدو يستباح بما يترتب على ذلك من مغانم. من هذه النقطة التحولية، أي تحول الجهاد كواجب تقوى إلى الجهاد كواجب تقية سياسية، نبتت فكرة التمذهب داخل العقيدة الواحدة. كان التحول في بداياته يخدم غزو الآخر باعتباره كافرا خارج الملة، ثم أصبح يخدم غزو واستباحة المماثل باعتباره كافرا خارج المذهب داخل نفس العقيدة.
لم تكن المسيرة طويلة جدا إلى أن وصلت الأمور إلى حكام لهم ملاليهم وحسينياتهم، وحكام لهم أئمتهم ومساجدهم، إلى روافض يسمون الآخرين نواصب ونواصب يسمون الآخرين روافض. بذلك اكتملت مأسسة الدين من منطلقات اقتصادية واضحة، ولكن واضحة فقط لمن لا يهاب التفكير والغوص في أعماق المأساة التاريخية للمسلمين. ما بدأ وحيا منزلا يلزم الجميع بنفس التطبيقات تحول إلى تكتلات فرزية سياسية واقتصادية، وكان لابد من صبغها بالدهانات المذهبية لتبرير انتمائها للإسلام أولا، ولتبرير تكفير الآخر واستباحته ثانيا.
كنت واحدا من الجماهير الغفيرة التي جمعت بين المتعتين بعد إفطار اليوم الثاني من رمضاننا هذا، متعة طقطقة وامتصاص رحيق اللقيمات ومتعة مشاهدة سيلفي عن يزيد وعبدالزهراء. الإخراج والأزياء والأضواء والحوار والقفشات والمواقف، كل هذه الأشياء كانت ممتعة وقدمت بمفاهيمها التراثية بطريقة ممتازة، ولكن سطحية لأنها اعتمدت على مفاهيم السياق الذي ذكرته أعلاه. المثقفون أو من يعتقدون أنهم كذلك، والوسطيون المنصفون أو من يعتقدون أنهم كذلك، وكاتب حوار سيلفي يزيد وعبدالزهراء والمخرج والممثلون، كلهم قدموا للجماهير المسطولة بالتاريخ الملفق قصة تراجيكوميدية عن الاصطفاف المذهبي على أساس أنه نتاج قناعات تقوى وهويات دينية خالصة يحرص الأئمة والملالي على حراستها والدفاع عنها.
ربما أنها قد اكتسبت قيمة القناعات التي تستحق الدفاع عنها عند الطرفين، ولكن ليس لأسباب الاختلاف في درجات التقوى، وإنما بسبب الاتفاق على درجات التقية لأسباب اقتصادية سياسية.
أكاد أجزم، لو لم تكن هناك خلافات البدايات على الغنائم والمكاسب لما كان هناك روافض ولا نواصب، ولاستمرت الأمور سمنا على عسل في الدين الواحد. بدايات الفتوحات خالطتها الشعوبيات بما جلبته معها من خؤولات ومصاهرات، ثم فسدت الأمور إلى ما نراه تطبيقا عمليا في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
ملاحظة ختامية: لأنها لعبة سياسية سيئة انتقل اللعب بها من مبتدعيها لصالح أمريكا وإسرائيل وإيران.