ناصر الصِرامي
لم أكن أتصور قبل عامين أن يأخذني تحضيري لمرحلة الدكتوراه إلى موضوع كتبت عنه في نفس التوقيت تقريبًا وفي هذه الزاوية تحديدًا، حينها كان التركيز على الإعلانات والمحطات الفضائية والشاشات الكبيرة.
إلا أن الرصد يعطي مؤشرات تغير حقيقي في مجالي الإعلام والإعلان، بل وبداية لثورة من التغيرات في هذه الصناعة.
الآن نعيش شهر رمضان، الذي يشكل أكبر حصة للإنفاق الإعلاني في العالمين العربي والإسلامي، وتقديريًا تقترب نسبة الإنفاق إلى نحو نصف ما ينفق طوال العام، ويتحصل التلفزيون وحده على حصة تبلغ نحو 40 من حجم السوق الإعلاني، لكن هذه المعادلة قد بدأت في التغير مع تقديم وإنتاج المحطات لبرامج الواقع والبرامج الترفيهية الفنية خارج شهر رمضان.
هناك عامل آخر يتجاوز تأثيره الشهر الاستهلاكي، إنها وسائل التواصل الاجتماعي التي تحقق شركاتها مليارات الأرباح متفوقة على عدد كبير من دول العالم الثالث مجتمعة.
رمضان شهر الاسترخاء وله سلوك اجتماعي خاص، وبالتالي فرصة ملائمة تصنع حراكًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي نجدها تنافس الشاشات الكبيرة - التلفزيون- وقت ذروة المشاهدة التلفزيونية. قبل أن يعود المستخدمون مرة أخرى إلى الشاشات الصغيرة -الهواتف والأجهزة المحمولة- وحدها طوال اليوم.
لا يمكن لمراقب أو دارس أن يغفل واقع وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي تشهد كثافة مشاركة وتفاعلاً من كل الأطياف والأعمار ومن الجنسين، وبلا توقف عن المشاركة حتى أصبحت هي الملتقى والمقياس. وقد يأتي أحيانًا مرتبطًا بما تعرضه القنوات الفضائية، نقدًا وتحليلاً وهجومًا ودفاعًا ومواقف..الخ.. لكن أيضًا لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم موضوعاتها واهتمامتها وحتى إنتاجها الخاص من المحتوى.
لم يعد بالإمكان اليوم حساب استطلاعات المشاهدة للقنوات التلفزيونية بشكل عشوائي فقط، وأخذها بجدية في مقابل ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات من أرقام حقيقة لا جدل في تفاعلها..!
لنتذكر أن المشاهد لا يفقد الحيلة أبدًا في تفادي البرنامج أو المسلسل أو حتى الإعلان الممل - وتجنبه، عبر سلوك تلقائي، على سبيل المثال، تغيير القنوات، والانتقال بين قناة وأخرى، أو كتم صوت التلفزيون للدخول في أحاديث جانبية، أو ترك غرفة التلفزيون للحصول على احتياجاته. وهو ما يفقد الإعلان فاعليته وخسارة قيمته.
وهناك دراسات عدة جادة تؤكد تأثير هذا السلوك على مليارات الإعلان التجاري وفعليته وتأثيره في المشاهد، أو قدرته على جذبه لإيصال الرسالة التسويقية التي كلفت الملايين إنتاجًا وإعلانًا. مقابل شبكات التواصل الاجتماعي المباشرة والأقل تكلفة والأكثر فاعلية.
قد يبدو ما سبق سلوك طبيعي.. لكن وضعه في صورة أكبر أمام مليارات الإنفاق الإعلاني، تجعل المحطات الفضائية الخاصة في العالم تهتز وهي تنظر إلى ذلك بقلق كبير.. بل وتسارع إلى دراسة هذه التحولات التقنية والسلوكية أيضًا، من أجل الحد من هروب الإعلان من الشاشات العملاقة، إلى الشاشات الصغيرة.
القصة الرئيسة اليوم هي الإعلانات التلفزيونية وتحولاتها مع ظهور وسائل الإعلام الجديدة في شكل من أشكال التواصل المباشر والمتنقلة والاجتماعية، من جانب آخر لك أن تتخيل أن حوالي 40 في المائة من السكان الولايات المتحدة الأمريكية يستخدمون الإنترنت للوصول إلى برامجهم المفضلة. وبالتالي توفير وسائل الترفيه دون انقطاع. ملامح التحول والتغير في صناعة الإعلان وصلت وتتمدد على كل أطراف الصناعة.
ولن يتوقف المعلن -التاجر- عن سلوك أي طريق من أجل الوصول للمشاهدين -المستهلكين-، ولن تتوقف صناعة الإعلام عن ابتكار طرق مختلفة عبر كل الوسائل للفوز بمليارات المعلنين.. لكن هذا يعنى بالتأكيد تغير قواعد اللعبة.. وتغير اللاعبين أيضًا.. على المستوى القصير والمتوسط!