د. جاسر الحربش
ربما أكون قد وجدت السبب الخفي لانتشار الفوضى في المجتمعات المتخلفة التي يكون العقاب فيها على الفوضى خفيفا ً أو غير موجود. عندما تكون أخلاقيات العمل متروكة لأريحية الموظف، أي فوضوية، والخدمات الصحية في حالة فوضى والمرور فوضى والالتزام بالطابور فوضى وآداب الدخول والخروج من دور العبادة فوضى، والالتزام بساعات العمل فوضى، حينئذ لابد من وجود مكافأة لتعويض المواطن عن غياب النظام. المكافأة هي بكل بساطة المشاركة في هذه الفوضى وفي الاستمتاع بمضايقة الآخرين للتنفيس عن إحباطاته من الفوضى فيما يجب أن يكون نظاميا ، وكل واحد ينفس إحباطاته في الآخر.
ماهو الشيء الذي يكفي كتبرير منطقي لإطلاق المشاركة في الحريات الفوضوية في المجتمعات العربية دون استثناء ؟. أعتقد أن السبب هو التقييد أو الحد من الحريات غير الفوضوية والبناءة مقابل إطلاق أنواع أخرى من الحريات، أي مقايضة حصرم بعنب، لأن الإنسان إذا منع من شيء يراه مهما ً له لابد من إعطائه البديل للتنفيس وجبر الخاطر.
عموما ً الحريات الاجتماعية نوعان، حريات بناءة تصب نتائجها في التعايش والإنضباط العام لخدمة التطوير والتحديث، وحريات هدامة تصب نتائجها في إفساد التعايش الاجتماعي وتخريب خطط التطوير والتحديث في أماكن التطبيق. من الحريات البناءة حرية الحق في الرأي المنضبط بالعقل وبالإلتزام الأخلاقي والمصلحة العامة، وحرية الحق في السؤال والحصول على الجواب الصحيح، وحرية المطالبة بالشفافية العلنية في الأنظمة والأهداف والتخطيط للمستقبل، إلى آخره.
أما الحريات الهدامة المقلقة للتعايش المخربة للتحديث والتطوير فتشمل حريات التلاعب بالوقت ومصالح الناس في الدوائر الحكومية والمؤسسات، وحرية السائق في القفز على الرصيف للعبور قبل الآخرين وحرية التصرف بمواعيد المستشفيات حسب المصلحة الشخصية والروابط الإجتماعية الخاصة، وحرية ركن السيارات في مداخل ومخارج المستشفيات والمساجد والدوائر الحكومية والمؤسسات، وباختصار حريات الفوضى المطلقة دون عقوبات رادعة، وهذا يعني التساهل في إطلاق حريات الفوضى وفي المحاسبة الفورية.
بناء ً على هذه الأوضاع قد يوجد شرح معقول لتعايش مجتمعات العالم الثالث مع الفوضى وانتشار العقلية الفوضوية، لأنها هي الحرية المتاحة بدون عقوبات مقابل التنازل عن الحريات المحجوبة أو المقيدة.
في اليونان على سبيل المثال، وهي بلد أوروبي لكنه يتعايش مع الفوضى في كل مكان يوجد فساد إداري ومالي وحكومي يلتهم الميزانيات ويضع البلد دائما ً في حالة فقر وحاجة إلى المساعدات الخارجية. مقابل ذلك نجد المواطن اليوناني يتمتع بحريات فوضوية تشبه تلك الموجودة في العالم المتخلف إلى حد التطابق. بالمقابل تتوفر في دولة مثل ألمانيا كافة الحريات البناءة المحمية بالقانون النافذ ونجد حرية الفوضى معدومة تماما ً. السبب هو أن الفوضى من الأساس لا لزوم لها، فالحريات البناءة والضرورية للتعايش والعدالة مكفولة ومضمونة للجميع. لا تنجح أي خطط تنموية في بلد تكون فيه حريات الفوضى هي المشهد اليومي العام.