«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
حدث ذلك قبل أربعة عقود كنت أجلس في مكتبي بالصحيفة التي أعمل بها في الماضي. كان الوقت الرابعة عصراً. كنت خلالها أكتب تغطية لإحدى الفعاليات في المنطقة. دخل بعد أن ألقى عليّ تحية السلام. وقفت محيياً له ومرحبا. كان الرجل ربعه يميل للنحافة. جلس ملتقطاً أنفاسه يبدو أن سلم العمارة قد أنهكه قليلاً على الرغم أن المكتب كان بالدور الأول. بعدما استرد أنفاسه. فقلت في نفسي كان الله في عون من يسكنون في الأدوار العليا وبدون مصاعد وما أكثرهم في هذا العالم. وقف من مقعده وانحنى على مكتبي وأخرج من جيبه العلوي ورقة صغيرة، وأخذ يقول لقد فقدت نظارتي الطبية عندما وضعتها لاغتسل وأتوضأ للصلاة في جامع الإمام فيصل القريب من السوق. يبدو أنني قد نسيتها. والغريب أنني لم ألحظ فقدها إلا بعدما انتهيت من أداء الصلاة وخرجت من باب الجامع ومددت يدي لجيبي لألبس نظارتي فلم أجدها. عدت سريعاً لداخل الجامع وبحثت عنها في نفس مكان الصلاة. فلم أجدها. عندها تذكرت أنني وضعتها جانباً عند مكان الوضوء. فقاطعته لو تكرمت بالجلوس أفضل من وقوفك بهذه الصورة منحنياً لتروي لي حكاية «نظارتك» المفقودة. وحتى لا تزيد فقدك لنظارتك فقدك لصحة ظهرك. هذه الوضعية قد تصيبك بمشكلة صحية في الظهر. تراجع قليلاً واعتدل في وقفته وقال بعدما فتح فمه مندهشاً وبانت سنه الذهبية التي تقع في اليمين من فكه الأيمن. صحيح يا أستاذ تصدق بدأت أشعر بألم في ظهري.. جلس صاحب النظارة المفقودة وواصل حديثه الممل والمكرر بعدما وضع الورقة الصغيرة المقتطعة من دفتر مدرسي مخطط أو كما يقال مسطر: لم يستغرق وقت فقدها كثيراً كلها فترة صلاة الظهر. فحين بحثت عنها في جيبي لم أجدها. إنها نظارة عزيزة عليّ. عيوني تؤلمني وأجد صعوبة في النظر بدونها. توقف قليلاً عندما ناوله عامل المكتب كأس الشاي ليحسن الإمساك به. فقاطعته واضح أنك تعاني ضعفاً في النظر بدون نظارتك المفقودة والعزيزة جداً. ثم أضفت اسمح لي أقرأ ما هو مكتوب في ورقتك الدفترية (إعلان هام. فقدت نظارتي. ذات عدستين سميكتين. الرجاء التكرم أن ينشر من يجدها إعلاناً بحروف كبيرة وواضحة مع الشكر). ومسكت نفسي عن الضحك لكنني لم أمنعها من الابتسام. وأنا أقول له مندهشاً. ولماذا تكون حروف الإعلان ذات حجم كبير. هذا معناه سوف يكلف المعلن مبلغاً كبيراً. فكلما زاد حجم الخط وتضاعف حجمه فهذا يعني زيادة في قيمة الإعلان.. فرد قائلاً بعدمااعتدل في جلسته. طيب كيف أنا أقدر أشوف الإعلان وأقرأ حروفه وأنا بدون نظاره. تصدق لولا أني كنت أتحسس جدران مكتبكم ودرابزين الدرج وإلا كدت أسقط عليه وأزيدك من الشعر بيت لولا ابن حلال وصلني لمكتبكم ما كنت تشوفني هنا.. الله يهديك بس.؟! نظرت إليه بعدما احتسيت قليلاً من الشاي وقلت: طيب كم المساحة التي تريد أن ننشر فيها إعلانك أنت.؟ وإذا به يخرج من جيبه محفظته الكالحة اللون وبعد أن قربها من وجهه أخرج منها «خمسين ريالاً» ومدها لي وهو يقول يا ليت طال عمرك تعطونا خصم. سمعت أنكم يا أهل «الجرايد» ما شاء الله تعطون خصم حتى 50 %. هممت أن أقول له. يا ليتك تقول بعد عطوني إعلان مجاني أحسن..! لكنني رحت أوضح له أن أقل إعلان عن الفقد بـ 100 ريال لفقد بطاقة شخصية لكن نظارة ذات زجاج سميك. إعلانها لا يقل عن 250 ريالاً هذا بعد الخصم. وإذا به يقف غاضباً وهو يقول بانفعال عطني الخمسين أروح أسوي لي نظارة جديدة عند «يامين» (وكان هذا اليامين أشهر طبيب عيون في الأحساء أيامها) أحسن من إعلانكم. وأخذ الخمسين ريالاً. وكاد يصطدم بباب المكتب وهو خارج حاملا معه غضبه وانفعاله.