التفكير عملية ذهنيّة واحدةٌ تختلف نتائجها تبعاً لتأثّرها بعوامل، ولست أعني الذكاء وضدّه، ولا الحُمق وضدّه، وإنّما: العلم والجهل، والمجتمع، والهوى، ومحابَّ النّفس، وأعني أيضاً: بقاء المفكّر على الفطرة واستجابته لندائها، فإنّ الله تعالى خلق كُلّ مولود على الفطرة، وهي الإسلام، لكنّ أبواه ربّما يُغيّرانه عنها، وكذلك معلّموه.
اجتمع جماعةٌ في الجاهلية منهم ورقة بن نوفل على الاستجابة إلى نداء الفطرة، وتعاهدوا على طلب دين غير عبادة الأصنام، ومما قالوه: (التمسوا لأنفسكم ديناً؛ فإنّكم والله ما أنتم على شيء)، وتفرّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، وقبلهم إبراهيم عليه السلام الذي اعتزل قومه وما يعبدون قبل أن يُبعث، مع أنّ أباه وإخوته يصنعون الأصنام، ويبيعونها، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حُنفاءَ كُلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأَمَرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً»().
وممّا روي ولا نعلم صحّته: أنّ أحد أذكياء علماء الكلام مرّ على قوم؛ فحفّوا به، وتنادوا: أن اغدوا على عقله إن كنتم مفكّرين، فرأتهم عجوزٌ، وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا الذي جمع مائة دليل على وجود الله. قالت: أفي الله شك؟ فقيل له: قال: صدقت العجوز.
وممّا رواه الذين تجاوزوا المأذون في عمليّة التفكير عن أنفسهم: أنّ بعضهم قال لمن حضر عنده: ما تعتقد؟ فأجابه: اعتقاد المسلمين. قال: وأنت منشرح الصّدر مُستيقن؟ قال نعم. قال: أُشكر الله على هذه النّعمة، لكنّي ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري.
واعترف بعض أذكياء العالم بأنّ الفطرةَ صنو الطمأنينة، والسكينة، وأنّ الانحراف عنها طريق التهوّك والتحيّر، قال الجويني بعد ركوبه البحر الخِضمّ: (أموت اليوم وأنا على عقيدة عجائز نيسابور)، يعني على نفس نتيجة تفكير أولئكِ العجائز اللائي بقين على فطرة الإسلام والتوحيد، وسمعن القرآن والسنّة، ولم تضطرب أفكارهنّ، ولم تتحيّر عقولهنّ، ولم تتناقض آراؤهنّ، ولم تُصادم نتائجُ تفكيرهنّ قيمَ القرآن ومُسلّماتِ الشريعة، ولم تتنقّص مقام الرّسل والأنبياء، ولا الصّحابة وأئمّة الهُدى.
كنّا في مجلس الأستاذ الأديب حمد القاضي، ومعنا بعض المشايخ والفضلاء، وحدّثنا الشيخ عبد الله بن منيع أنّه كان يحضر دروس شيخه محمد بن ابراهيم رحمه الله في مسجد دخنة الصغير، وأنّ امرأة في عشر السبعين كانت تحضر، وتجلس قُرب باب المسجد، ويظهر أنّ لها عملاً قريباً من المسجد، وتعوّدت أنّها إذا فرغت منه؛ حضرت الدّرس، وكان يُقرأ على الشيخ عددٌ من الكتب، والشيخ يُعلّق على المقروء، والطلاب يسمعون ويكتبون، ومن ضمن المقروء: كتاب البداية والنهاية لابن كثير، وصادفَ أنّ القراءةَ ذلك اليوم كانت فيما جرى بين الصحابيّين الجليلين علي ومعاوية رضي الله عنهما وأرضاهما، وطالت القراءة بصوت نديٍّ، وترتيلٍ نجديّ، والشيخ لا يُعلّقُ بشيء، وهذه عادة علماء أهل السنّة والجماعة؛ أنّهم فيما جرى بين الصحابة يكفّون ولا يخوضون، ويتأثّرون، وربّما يبكون.
فلمّا فرغ الدّرس؛ سألت المرأةُ الشيخ على عادتها سؤالاً أو أكثر، فلمّا فرغت؛ قال لها الشيخ: أنا أبسألك اليوم، هل تسمحين؟ قالت: اسأل.
قال: (وش) استفدتِ من درسنا اليوم وقراءتنا الطويلة؟
قالت: والله يا شيخ إنّي (شفزتن) على عليّ، و(شرهتن) على معاوية رضي الله عنهما. انتهت القصّة، ومعنى (شفزتن): مُشفقة، و(شرهتن): معاتبة.
إنّ جوابَ عجوزِ دخنة بعد سماعها ما جرى على وجهه بلا تحريف ولا تبديل؛ هو جواب أهل السنّة والجماعة، فأيُّ سبكٍ جعل العمليّة الذّهنيّة في عقل العجوز تُنتج ذاتِ النّتيجةِ التي تواطأَ عليها سابقُ عقلاء المسلمين ولاحقهم؟
وأيُّ إحكامٍ لعقولٍ حجزت بين أبدانها مفاوزُ ومحيطات، أو قرونٌ وفترات؛ يجعلها متّفقةً؟
إن فطرة الإسلام وما بُني عليها من أفكارٍ وعلم ومعرفة؛ تُحكم العقل الجمعيّ بحيث يتطابق ويجتمع في أهمّ معالم هويّته، وإنّ ديننا العظيم وعقيدتنا المُحكمة لا تُصادم التقدّم، ولا تُعيق العقل ممّا ينفع، لكنّها تُلقّنه أنّ له حافة وشفيراً، وأنّ لكلّ شيء حِمى، ومن حام حول الحمى؛ رتع فيه، ولكنّ أكثر النّاس لا يعقلون، ولا يعلمون، إنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدّنيا، وهم عن الآخرة غافلون.