قرأت خبر وفاة المعلم والمربي والأستاذ والمدرب عبد االله الصيداني الذي وافته المنية يوم الأربعاء 8/23/ 2023 -رحمه لله- عن عمر ناهز المائة عام. وقد أخذني الخبر إلى حقبة الستينيات الميلادية؛ لأرى أستاذ التربية البدنية عبد الله الصيداني أمامي، وهو بيننا في معهد العاصمة النموذجي، مرتدياً سترته الرياضية البيضاء، يوجهنا بحماس، ويشرح لنا بأسلوبه الأبوي الراقي أساسيات ومهارات الألعاب الرياضية، ويبث فينا روح التشجيع والتحفيز والاتقان والتميز والمنافسة الشريفة. وكانت رسالته لنا نحن أبناؤه وتلاميذه هي غرس حبّ الرياضة، لينمو معنا حبّها وشغف ممارستها بأنواعها المختلفة.
لقد ترك المعلم عبدالله الصيداني بصمته في نفسي بتعامله الأبوي الرفيع والرزين مع شباب طموح يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع، فالطلاب عنده سواسية بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي لا يختلفون في ميزان تعامله معهم. كان أسلوبه سلساً ومرناً في التقريب بين الطلبة ونجح في خلق روح فريق مترابط، تتكامل مهاراته لتحقيق النجاح من خلال المساواة الرياضية بينهم كونها الحافز الذي يجمعهم.
كان يرحمه االله ويسكنه فسيح جنانه يجسد المعنى الحقيقي للمعلم، ودوره في بناء الإنسان القوي الواثق من قدراته، المتحلي بروح المنافسة، والخلق الرفيع.
فالمعلم هو أحد أساسيات بناء المجتمع، وما ينقله بأسلوبه اللبق والمحفز من قيم ومبادئ إلى طلبته، تغرس في نفوسهم وعقولهم الرسالة التي يود إيصالها في أي حقل من حقول التعليم.
والرياضة البدنية كانت رسالة المعلم عبدالله الصيداني التي آمن بها، وعمل بإخلاص من أجلها ليرتقي بأبنائه من خلالها إلى بناء شباب قوي البنية، نقي السريرة، واعٍ بأهمية التكامل بين الزملاء لتحقيق النجاح، قادر على أن يمارس هوايته بمحبة وإيمان ونزاهة للوصول إلى أهداف سامية، سواءً له شخصياً بدنياً وعقلياً، أو بتطوير موهبته إذا كانت على مستوى يؤهله لتمثيل وطنه في المحافل التنافسية.
تجربتي مع معلمي الأستاذ عبدالله -يرحمه االله- كانت بتوجيه مدربي ألعاب القوى في معهد العاصمة لتطوير قدراتي التي اكتشفها في سباقات السرعة، وكذلك في القفز الطويل والثلاثي.
كان متابعاً ومشجعاً ومحفزاً لي خلال التدريب إلى أن تمكنت -بتوفيق الله- من تحطيم الرقم القياسي السعودي في القفز لعدة سنوات.
كانت مبادرات الأستاذ عبدالله أبعد من مستوى المدرسة؛ حيث شجعنا للانتماء إلى أندية رياضية لتمثيلها في المنافسات التي تقام على مستوى المملكة. وبهذا التوجه كانت لي فرصة لتمثيل فريق الشباب الذي كان في مقدمة الأندية المهتمة بالشباب وتطوير قدراتهم، فشاركت تحت شعارهم بألعاب القوى وكذلك في لعبة كرة اليد.
وأعود للتفكير بدور المعلم، حيث إني لم أقدر أهمية ما زرعه في نفسي الأستاذ عبدالله الصيداني إلا بعد سنين، عندما أصبحت متابعاً وممارساً رياضات عديدة مؤمناً أن للرياضة أبعاداً عميقة في تشكيل شخصية الإنسان وترويض النفس والارتقاء بالخلق، فـ «العقل السليم في الجسم السليم». إن دور المعلم والمربي والأستاذ هو غرس المفاهيم الفاضلة بأسلوب محبب جذاب وبسيط؛ لتنمو وتثمر ويبقى نتاجها مستداماً يتطور مع تطور عمر الإنسان.
كان تأثير الأستاذ عبدالله الصيداني -يرحمه الله- مستمراً ومستداماً بالنسبة لي دفعني لكي أمارس رياضات مختلفة كسلاح الشيش، والتزلج على الجليد، والسباحة، وكذلك التنس الأرضي.
وسوف أضرب مثلاً آخر لدور المعلم في مجال غرس المعرفة وتأثيرها المستدام على الطالب، فعندما بدأت تعليمي الجامعي كان أحد أساتذتي في مادة التاريخ الغربي الأستاذ «باتريك توبن» في كلية « منلو» في منطقة «منلو بارك» بضواحي مدينة «سان فرانسيسكو» بولاية كاليفورنيا. وكان من أهم أولئك المعلمين الذين تركوا بصمتهم بأسلوبه الشائق والمعمق لفهم وبناء نظرة الطالب للحياة من زوايا لم يكن يراها، وبالأحرى لم يلتفت إليها.
المعلم «توبن» عرفني بتاريخ الفنون والتراث والثقافة من خلال سماحة وتقارب الأديان بدأه وربطه بالمكان. وكانت «سان فرانسيسكو» وحركة «الفرانسسكيين» هي الرابط الذي شدَّ به معلمي بين ديانتي كمسلم وفهمي للتاريخ والأدب والفنون الغربية. عرفَّني أستاذي الذي عاش في آخر القرن Saint Francis of Assisi» على «سانت فرانسيس أوف أسيسي الثاني عشر في بلدة «أسيس» الإيطالية، حيث كانت الحملات الصليبية التي تقوم بها الكنيسة وتمولها من تجار المدن، ترسل أبناءهم على رأس الحملات. وكان «سانت فرانسيس» أحد هؤلاء الشباب الذي عاد هارباً لعدم رضاه عمَّا تقوم به الحملات من قتل وتعذيب للمسلمين.
عاد وتبرأ من الكنيسة وبدأ نظامه الديني البسيط الذي يؤمن بالتعايش السلمي ومساعدة المحتاج، والتعفف والزهد والبساطة في المعيشة والملبس، والأخوة مع الجميع حتى الحيوان والنبات والنجوم.
عاد مرة أخرى ليساعد المسلمين ويخلصهم من ظلم الكنيسة وحملاتها الطاغية، وقابل السلطان مالك الكامل الأيوبي الذي رحب به واستضافه لتكون هذه أهم علاقة احترام وتفاهم بين الأديان في ذلك العصر. ربط التاريخ وشخصية المُصلح المسيحي بديني الإسلامي، ففتح أفقي ووسع نظرتي لمفاهيم كبيرة في أهمية تأثير الحضارات بتاريخها وفنونها وتراثها وعاداتها وتقاليدها في بعضها البعض.
زرت بلدة «أسيسي» عدة مرات، وكانت لي تجارب جميلة فيها خصوصاً عندما علمت أن المغفور له -بإذن الله- الملك فيصل بن عبد العزيز قد أوفد الشيخ محمد الحركان إلى مؤتمر يبحث تقارب الأديان في بلدة «أسيسي» عام 1974م.
ذهبت في صباح ذلك اليوم في أول زيارة لأسيسي إلى الكنيسة حيث قبر «سانت فرانسيس»، وقابلت أحد القساوسة رحب بي وطلب أن أسير معه إلى غرفة الاعتراف، لكني أخبرته أني مسلم ومتابع لتاريخ هذا الرجل المصلح، وأود التحدث إلى مَنْ يعرفني أكثر بتاريخه.
طلب مني الانتظار وعاد لي ببوصلة وعباءة فرشها على الأرض باتجاه مكة المكرمة وقال لي: (صل يا بني وادع لي معك).
ثم دعاني بعدها للسير معه مروراً بالقبر، ومن ثمّ إلى المكتبة حيث آلاف الكتب، ومنها رفوف ممتلئة بالمخطوطات باللغة العربية.
هذا ما أضافه وزرعه في نفسي أستاذ التاريخ الغربي «باتريك توبن»، وما ذكرته سابقا عمَّا تركه في نفسي الأستاذ عبدالله الصيداني في مجال الرياضة.
فالمعلم، وهناك الكثير منهم في مراحل التعليم المختلفة أدين لهم بعظيم الأثر في تكوين شخصيتي، وبناء معرفتي.
فلولا المعلم لما قامت الحضارات ولا تطورت الثقافات، ولا انتشرت المعارف التي ساهمت في تطور البشرية.
وحمدًا وفخرًا وعزاً أن شرفنا الله بخير معلم وأسمى رسالة، ألا هي رسالة ديننا الحنيف، ومعلمنا الأول عليه أفضل الصلاة والتسليم.
** **
- فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود