كتبتُ قبل عامين نبذة عن رحلات الحج الهندية، والتركية، والعراقية، والأحسائية، واليوم أقف على كتابٍ عن رحلات الحج المقدسية (فلسطين)، وذلك لإعطاء صورة تاريخية عن هذه الفريضة وما يحمله المسلمون من عناءٍ في أدائها في الزمن القديم، ذلك أن لكل زمان ومكانٍ ظروفهما المختلفة، وهذا السِّفر المعنون بـ(تاريخ موسم الحج في بيت المقدس) للأستاذ/ بشير عبدالغني بركات، صدر عن مكتبة ومركز فهد الدبوس ودار البشائر الإسلامية عام 1435هـ، والذي رجع فيه مؤلفه إلى سجلات محكمة بيت المقدس وبعض المخطوطات والمطبوعات ذات الصلة بموضوع الكتاب.
إن موسماً كموسم الحج له ظروفه وطقوسه، وما يصحبه من استعدادات كثيرة، وآثار إيجابية، والتي منها ازدهار الصناعة والتجارة من المنتجات المقدسية التي تُحمل إلى الحرمين الشريفين وبالعكس، حيث يشتري التجار البضائع من الحجاز ونقلها إلى سكّان بيت المقدس، وذلك لكسب الرزق، بالإضافة إلى استعداد الجهات المعنية كالأمن (الشرطة) والمحكمة) وغيرهما على أهبة الاستعداد لأيّ طارئ يطرأ، فمن ضمن تلك الأمور التي يقوم بها الحجاج المقدسيّون الذهاب للمحكمة لإبراء ذممهم وفك الارتباطات من تأدية حقوق الناس وغيرها، وكذلك استئجار الدواب لمن هو في حالةٍ ميسورة، وعلى من لا يملك ذلك عليه أن يمشي ذهاباً وإياباً لتأدية هذه الفريضة.
أما الأمر المؤسف الذي يتعرَّض له الحجاج المقدسيّون وغيرهم ممن يقطعون مسافات طويلة تستغرق شهوراً من أيام السنة، هو: ترقّب اللصوص لقوافل الحج المقدسية وغير المقدسية بغية النهب وسلب أمتعة الحجاج وما فيها من أموال ونحوها، ولم تخف وطأة هذا الأمر الذي يؤرّق الحجاج إلا حينما أُنشئت سكة الحديد الحجازية عام 1326هـ، ولذا يتخذ الحجاج التدابير اللازمة لحماية ممتلكاتهم قبل السفر سواءً التي معهم أو التي يتركونها عند أقربائهم، حيث تودع عند معارفهم إلى حين عودتهم من أداء الفريضة.
وكانت قافلة الحج كذلك بحاجة إلى تمويل وتجهيز، كما يصحبها مراسم الاحتفال بالانطلاق، على خلافه قد يتعطّل الحج - وقد كان ذلك - على سكّان هذا القُطر لظروفٍ أمنية أو سياسية أو صحية، ذلك أن هذا حدث أكثر من مرّة عبر التاريخ، ومن المؤلم كذلك أن يتوفى بعض الحجاج قبل انطلاقهم من بيت المقدس إلى الحجاز إما لظروف صحية أو غيرها، ذلك أن الركب ينطلق في منتصف شوّال لمدة تناهز أربعة أشهر ذهاباً وإياباً، حيث العودة تكون بداية شهر صفر أو منتصفه، حيث يلتحق بهم بعض حجاج الأماكن المجاورة من تلك الأنحاء أو من يكون حينها زائراً لبيت المقدس من الهند وأفغانستان وتركستان وغيرها من البلدان، حيث تخرج القافلة من القدس الشريف مروراً بمدينة الخليل وغزّة ثم الالتحاق بالركب الشامي أو المصري، تارة برّاً وأخرى بحراً عن طريق العقبة، وبعضهم يعود بعد قضاء سنةٍ في الحرمين مع الركب في موسم الحج التالي، وبعضهم لا يمتلك حق العودة نتيجة الظروف المادية، كما حصل لأحد الحجاج المقدسيين، ترك زوجته في المدينة ثلاث سنوات حتى تفضّل أحد المحسنين من إرجاعها إلى أهلها على نفقته الخاصة.
تقديس الحجة:
من الأمور التي يفعلها حجاج بيت المقدس وغيرهم من المغاربة والشاميين والمصريين ...إلخ، زيارة بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج، وهو ما يسمّى «تقديس الحجة»، حيث يذهبون إلى بيت المقدس للصلاة فيه - خصوصاً البعيدين - لأنهم لا يضمنون المجيء مرة أخرى لأي ظرفٍ كان.
في هذا الكتاب عدة قصص موثقة من سجلات ووثائق كثيرة، لا تخلو تلك القصص من الألم لما يتعرّض له حجاج البلاد النائية، وما يتعرضون له من مآسٍ في الطريق، سواءً الظروف الجوية أو ما يحصل لهم من قطّاع الطرق والتي تؤدي تارة إلى زهق الأرواح وفقدان الممتلكات في حال حصلت مواجهة مسلّحة.
** **
- عبدالله بن علي الرستم