قبل الدخول إلى موضوع المقال الرئيس، دعني أمهد لبعض المفاهيم ذات العلاقة كالقوة في العلاقات الدولية والقوة الناعمة ومصادرها، فقد شهد مفهوم القوة في العلاقات الدولية جدالات كبيرة بين مختلف الدارسين والمختصين في العلاقات الدولية باختلاف خلفيتهم الفكرية، وتظهر في هذا الصدد ثلاثة اتجاهات في تعريف في العلاقات الدولية:
الاتجاه الأول: يعرف القوة على أساس قدرة صاحب القوة، على التأثير في الغير قصد حمل الآخرين على التصرف بالطريقة التي تصب في مصالح أصحاب القوة.
الاتجاه الثاني: القوة هي المساهمة والمشاركة في تصميم القرارات التي تخص المجتمع.
الاتجاه الثالث: يحاول الجمع بين الاتجاهين السابقين للقوة، ويعرفها بأنها القدرة على التحكم والسيطرة المباشرة أو غير المباشرة لشخص أو جماعة بهدف التأثير في الموقف بالاتجاه الذي يرغب به صاحب القوة.
ويعرفها أرسطو في كتابه السياسة «politics أنها تلك الإمكانية التي تتوفر لبعض أفراد المجتمع السياسي المنقسم بالطبيعة بين حكام ورعايا، لجعل الآخرين يفعلون ما لم يكونا فاعلية من تلقاء أنفسهم، وحتى تتضح فعالية هذه القوة لا بد من ممارستها فيرضخ الآخرون لطلب القوة».
وفي تعريف آخر للفيلسوف البريطاني «توماس هريز» القوة هي الوسيلة أو الوسائل المتاحة في وقت معين للحصول على خير مستقبلي واضح.
أما ما يخص القوة الناعمة فلقد عرف جوزيف ناي الأستاذ في جامعة هارفارد والعالم والباحث المتخصص في مجال السياسة، القوة الناعمة بأنها القدرة على الجذب بعدم الاعتماد على الإرغام القهري والتهديد العسكري أو شراء التأييد والموالاة عن طريق المال والرشاوي كما كان سائداً في الاستراتيجيات القديمة للقوة بمفهومها الصلب.
وعرفها تعريفا آخراً بأنها «القدرة على التأثير في الآخرين والحصول على النتائج المفضلة عن طريق الجذب والإقناع بدل الإكراه أو الدفع».
وإذا أردنا توضيح العلاقة بين القوة الناعمة والدبلوماسية فالقوة الناعمة تنشأ من القيم والموارد التي تعبر عنها منظمة أو دولة في ثقافتها، بينما الدبلوماسية العامة هي أداة تستخدمها الحكومات لتعبئة موارد القوة الناعمة للتواصل مع جماهير البلدان الآخرين واجتذابها، فتشكل الدبلوماسية العامة واحدة من أهم الأدوات الرئيسية للقوة الناعمة.
أما مصادر القوة الناعمة بحسب «ناي» 2004م فهي:
الثقافة: وتعني مجموعة القيم والممارسات التي تخلق معنى للمجتمع، بشكل عام يتم التميز بين الثقافة العالمية التي تمثل: الفن، السينما، المتاحف... إلخ والثقافة الشعبية، لكن كليهما قادر على حد سواء على حمل القوة الناعمة.
القيم السياسية: وهي جميع التدابير السياسية التي تتخذها الحكومة والقيم التي تفضلها في سياستها مثل التأكيد على حقوق الإنسان، طبيعة النظام حيث يدعو إلى تحويل هذه الموارد إلى نتائج باستخدام الوسائل المناسبة بهدف جذب المستهدفين أو الجماهير.
ممارسات السياسة الخارجية: فبحسب ناي فإن الممارسات السياسية التي تستغل الموارد لدولة وتروج لها بشكل جاذب تعد مصدراً مهماً للقوة الناعمة.
واليوم عزيزي القارئ فإنه لا يخفاك ما تمتلكه مملكتنا الغالية من مصادر للقوة الناعمة في ظل قيادتنا الحكيمة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وولي عهده مهندس رؤيتنا الأمير محمد بن سلمان -سدد الله خطاه وحفظه-، تمثلت هذه القوه بمنجزات على أرض وفضاء الواقع، فمصادر القوة الناعمة لدينا لم تقف على البعد التاريخي والحضاري والثقافي فقط، بل أضيفت لها الرؤى المستقبلية وما تحقق من خلالها من منجزات كالمشروعات العملاقة على سبيل المثال: نيوم والتي يجري تطويرها على مساحة تزيد على 26كلم، وغيرها من المدن والمشاريع التي ستساهم في مستقبل الإنسانية ورفع جودة الحياة، بالإضافة إلى المشاريع الاقتصادية والسياحية والرياضية الضخمة العالمية التي تشهدها بلادنا اليوم.
وأتفق مع ما أوصت به دراسة في وقت سابق للباحثين فيصل الأكلبي وسلطان الحارثي بأهمية الترويج للقوة الناعمة للمملكة من خلال جميع وسائل الدعاية الإعلامية وغير الإعلامية وأهمية المحافظة على المملكة بدورها الداعم للقضايا الإسلامية، بالإضافة إلى أهمية الترويج لمنجزات رؤاها، فقد بينت الدراسة المعنونة بـ»دور القوى الناعمة استراتيجياً في فاعلية السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية» أن أهم مصادر القوة الناعمة للمملكة، الدين الإسلامي الذي يعد الركيزة الأساسية والمنطق الأول لجميع القوى السعودية، واستطاعت من خلالها التأثير في العالم الإسلامي والسعي لتوحيده، وأن الاقتصاد السعودي ذو تأثير عالمي من خلاله تستطيع المملكة توجيه الاقتصاد العالمي، كما أن الدبلوماسية السعودية لها حضور وتأثير عالمي على السلم والأمن الدوليين وحسن الجوار، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة في القضاء على الإرهاب في العالم، كما أن رؤى المملكة الشاملة المتحققة إنجازاتها على أرض الواقع من أهم مصادر القوة الناعمة.
الخاتمة: نمتلك هذا القدر الكبير من القوة الناعمة في مرحلتنا الحالية التي لا تضاهيها قوة في العالم، قوتنا الناعمة تستحق أن نروج لها، وفق قيمتها العالية، فالمحتوى متاح بقدر كبير، بقي التخطيط الإعلامي الخارجي المناسب، عبر منصات تناسب كل دولة ومجتمعها ولغتها وثقافتها، مع الأخذ بالاعتبار طبيعة الجماهير المستهدفة فيها.