الجزيرة - الرياض:
عاشت المملكة خلال الأعوام الأخيرة نقلة مهمة في مسيرة القطاع العام تجاه التحول الرقمي والتنظيمي، وبدعم خادم الحرمين الشريفين وحرص ومتابعة مباشرة من سمو ولي العهد انتقلت جل قطاعات الأعمال العامة إلى مرحلة حيوية بالتفاعل مع المستفيدين من خدماتها، وكان من بين أكثر هذه القطاعات التي حظيت باهتمام وحرص القيادة القطاع القضائي بشقيه العام والإداري، يؤكد ذلك تصريح معالي د.خالد بن محمد اليوسف رئيس ديوان المظالم: (متابعة سمو ولي العهد المباشرة لتطوير البنية التشريعية وتطبيق العدالة في المملكة، هو ضمان قضائي وجزء لا يتجزأ من عمليات حوكمة القضاء الإداري).
يتولى ديوان المظالم سلطة القضاء الإداري، أي أنهُ يفصِلُ في الدعاوى التي تكون جهة الإدارة طرفًا فيها، وبصدور المرسوم الملكي رقم (م/15) وتاريخ 27/1/1443هـ بالموافقة على نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم، وكذلك افتتاح محكمة التنفيذ الإدارية، يستكمل ديوان المظالم مسيرة التطور التشريعي الريادي لمنظومة القضاء الإداري في المملكة، ما يعزز مكانته ويضمن تنفيذ السندات الإدارية.
إلى جانب التطور التشريعي، شهد ديوان المظالم نقلة نوعية في التحول الرقمي، لم يقتصر على إنهاء التعامل بالورق وحسب، بل تطوير لمنصاته وخدماته الرقمية، لتصبح جميع الإجراءات التي يقوم بها المستفيد متاحة بأيسر السبل، بما فيها منصة مُعين الرقمية التي تتم من خلالها عملية التقاضي رقمياً بالكامل ابتداءً من رفع الدعوى وانتهاءً باستلام نسخة الحكم، ومنصة تنفيذ الإدارية التي تستقبل طلبات التنفيذ رقمياً، جميعها شهدت تحولًا هائلًا في جودة الخدمات الرقمية المقدمة فيها من بداية التقاضي وإلى التنفيذ.
كما حقق ديوان المظالم مرحلة التكامل الرقمي في مؤشر قياس التحول الرقمي لعام 2023م، ما يمهِّد لوصوله إلى مستقبل ذكي واستثمار إبداعي للتقنيات الناشئة الحديثة وفق استراتيجته.
ولم تغب مبادئ الحوكمة الإدارية عن المشهد في ديوان المظالم، فقد عزز الحوكمة عبر تكريس مبادئ المساواة والشفافية والوضوح في أنظمته وإجراءاته، وبإطلاق بوابة الجهات الحكومية الرقمية التي تتيح للجهات الحكومية إدارة جميع الدعاوى والممثلين والاطلاع على مؤشرات الأداء، وتمنحها صلاحيات رقابية تُعزز حوكمتها.
من الفكرة إلى التنفيذ
بدأت الحاجة إلى نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم مع ما لاحظه القائمون عليه من تعثر تنفيذ عدد من القرارات والأحكام الصادرة عنه من خلال ما يرد إليه من دعاوى وشكاوى عن امتناع ومماطلة الأطراف في تنفيذ الأحكام الإدارية، مر نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم عبر السنوات الماضية بمراحل متعددة، بداية من عمل قضاة ديوان المظالم والمختصين على الفكرة؛ لتأسيس مسودة النظام الأولى، والجهود المبذولة لتخطي جميع العراقيل الأولية التي واجهت المشروع، قبل الرفع للحصول على الموافقة الكريمة من القيادة الرشيدة لإقرار النظام، كل ذلك شكّل مرحلة أولى متميزة رسمت ملامح النظام.
تأتي بعدها مرحلة العمل على تأسيس النظام بعد صدور موافقة المقام السامي، حيث وضعت مواد النظام ولوائحه التنفيذية وجرى التنسيق مع كافة الجهات المعنية، وبموافقة مجلس القضاء الإداري على اللائحة التنفيذية لنظام التنفيذ، وإقرار محكمة التنفيذ الإدارية، أصبح نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم جاهزًا للعمل به، فأقيمت دورات تدريبية وتأهيلية متخصصة لجميع قضاة ديوان المظالم، ليتمكنوا من مباشرة عملهم وهم على إلمام بجوانب التنفيذ.
ووضح فضيلة أمين عام مجلس القضاء الإداري ورئيس فريق عمل تفعيل نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم د.علي الأحيدب أن النظام جاء ليؤكد على عزم ديوان المظالم من خلال قضائه الإداري على تعزيز فرص العدالة القضائية واستكمال أدواتها بإجبار تنفيذها ومعاقبة معطليه.
تنفيذ يجبر الجهات والأفراد
يهدف ديوان المظالم من خلال نظام التنفيذ إلى المعالجة الفعالة لإشكاليات التنفيذ على السندات الإدارية وما يصدره من أحكام وقرارات وفق نظام فريد من نوعه في العالم أعد وفق أحدث التعاملات والتجارب الدولية وبالشكل الذي يحقق الأمان القضائي ويعزز بيئة الاقتصاد والتنمية في المملكة ويدعم رفاهية الحياة والجذب إليها.
حيث يحث نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم المحكوم ضدهم على المبادرة بتنفيذ الأحكام النهائية والأحكام المشمولة بالنفاذ المعجل الصادرة من محاكم ديوان المظالم، كما نصت على ذلك المادة الثانية من النظام.
ويتطلب التنفيذ سندًا تنفيذيًا لحق محدد المقدار حال الأداء، وبدونه لا يجوز التنفيذ الجبري، ما يعني أن محكمة التنفيذ الإدارية لن تنظر في أي سند إداري يفتقر لأي من هذه العناصر المذكورة، ما يساعد في حصر طلبات التنفيذ على الطلبات الجديرة بفعل الأحقية وحلول الوقت وتحديد المقدار، ويشمل النظام جميع السندات التنفيذية الإدارية ومنها الأحكام النهائية أو العاجلة الصادرة من محاكم ديوان المظالم، وأحكام المحكمين والأوراق التجارية والعقود والمحررات المُوثقة التي تكون جهة الإدارة طرفًا فيها.
إضافة إلى ذلك، فقد منع النظام رفع طلبات التنفيذ قبل مطالبة المحكوم عليه بها، بعد ذلك يُوجَّه إنذار للجهة الإدارية الممتنعة عن الأداء، وتؤمر باتخاذ التدابير اللازمة للتنفيذ، بما في ذلك تمكين دائرة التنفيذ من الاطلاع على الميزانيات والوظائف والإجراءات وأي مستند تراه، مما يساعد على إرشاد الجهة وبيان الإجراءات التي يتطلبها التنفيذ، وربط ذلك بمُدد محددة بنص النظام تحفظ حقوق جميع الأطراف وتراعي قدرتهم على الالتزام بالتنفيذ.
توضح كل التفاصيل الموجودة في نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم-من حصر الطلبات والتوجيه والإرشاد والمدد المحددة والمهل والغرامات-، أنه نظام وُضِعَ أساسًا بهدف ضمان تنفيذ الأحكام والسندات الإدارية، لا بهدف فرض العقوبات، مع الأخذ بالاعتبار دورها الهام في مواجهة الفساد وتعطيل العدالة.
ويعد نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم امتناع الموظف الحكومي عن التنفيذ أو محاولة تعطيله باستغلال السلطة أو النفوذ الوظيفي، من جرائم الفساد ومن الجرائم الكبرى الموجبة للتوقيف، وهذا يؤيد ما جاء في تعريف الفساد في الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد من أنه «كل سلوك انتهك أيًا من القواعد والضوابط التي يفرضها النظام، وكل سلوك يهدد المصلحة العامة، وأي إساءة لاستخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب شخصية».
محاربة للفساد بعقوبات رادعة
ووفقاً للنظام، إذا استغل الموظف الحكومي نفوذه أو سلطته الوظيفية في منع تنفيذ السند المطلوب تنفيذه -جزئيًا أو كليًا- بقصد تعطيل تنفيذه؛ يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على (سبع) سنوات وبغرامة لا تزيد على سبعمائة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين.
كما يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على (خمس) سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسمائة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين؛ إذا امتنع عمدًا عن تنفيذ السند المطلوب تنفيذه -جزئيًا أو كليًا- بقصد تعطيل تنفيذه، وذلك بعد مضي (ثمانية) أيام من تبليغه بالإنذار المنصوص عليه في المادة (العاشرة) من النظام، أو وصول إجراءات التنفيذ التالية للإنذار إليه، وكان التنفيذ من اختصاصه.
وأجاز النظام لدائرة التنفيذ -بعد انقضاء المهلة المنصوص عليها في المادة (العاشرة) أو المادة (السادسة عشرة) بحسب الأحوال- أن تفرض غرامة لا تزيد على عشرة آلاف ريال على المنفذ ضده عن كل يوم يمضي دون إتمام التنفيذ.
ومنح النظام دائرة التنفيذ إصدار إنذارًا للجهة الإدارية للتنفيذ خلال مهلة لا تتجاوز (خمسة) أيام في الأحكام العاجلة، و(ثلاثين) يومًا فيما عداها، وذلك من تاريخ التبليغ بالإنذار، وللدائرة أن تُبلغ بذلك الجهة الرقابية المختصة للنظر في مباشرة الإجراءات التأديبية عند الاقتضاء.
دعم للبيئة الاستثمارية في المملكة
يساعد النظام في سرعة تحقيق العدالة بما يخدم مصلحة الوطن حيث يُوفّر بيئة قانونية ستنعكس إيجاباً على الاستثمار والتنمية وكافة جوانب الحياة الاقتصادية–بإذن الله-. وعلى مستوى الأفراد، سيضمن الجميع من خلال هذا النظام وحدة إجراءات التنفيذ الإداري التي تحقق تنفيذ العدالة وسرعة استيفاء الحقوق كما يختصر الوقت، ويضمن سهولة وسرعة تنفيذ الأحكام القضائي.
أما على مستوى المنشآت الاقتصادية سيعمل النظام على تحجيم المخاطر الاقتصادية والمعنوية المباشرة وغير المباشرة المتراكمة الناجمة عن تأخير التنفيذ أو الامتناع عنه، كما يختصر النظام الوقت ويضمن سهولة تنفيذ الأحكام القضائية مما ينعكس إيجاباً على خفض الجهد على القطاعات الإدارية ذات الصلة بتنفيذ الأحكام.
إلى مستقبل قضائي ذكي
يسعى ديوان المظالم ضمن خطته المستقبلية وبتحويل أول محكمة إدارية لمحكمة رقمية دون مبنى، وصدور قرار مجلس القضاء الإداري إلى تعويم الاختصاص المكاني لجميع محاكم الاستئناف الإدارية وتحويل المحاكم الإدارية لمحاكم رقمية خلال العامين القادمين، واستثمار الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة بما يخدم ويطور عمل القضاء الإداري؛ كل تلك الجهود أتت سعيًا لتحقيق الريادة في منظومة القضاء الإداري، بما يعزز الأمان القضائي المنشود.