لا يخفى عليك أيها القارئ الحصيف والمتأمل الأريب أن اللغة كائن حيٌّ وبها (اللغة) يتواصل الناس بعضهم ببعض، في مناسباتهم وتعاقداتهم، بل حتى الشخص بمفرده يتواصل مع نفسه وما يجول بخَلده بواسطة لغةٍ ما.
وإن من أكبر المشاكل التي ستواجهها مناسبة الكان (كأس الأمم الإفريقية- كوت ديفوار 2023م) هي مشكلة ترجمة لغة الدول العربية المشاركة في البطولة، فكل دولة لها لهجتها وعاميتها، فإن المترجم من اللغة العربية إلى الفرنسية أو إلى غيرها يحتاج إلى أن يُلم بقدر لا بأس به من عاميّات هذه الدول فعامية مصر تختلف عن عامية المغرب وعامية الجزائر تختلف عن عامية تونس وهكذا، لا يسعف المترجمَ كونه يتقن عامية مصر أن يستغني بذلك عن عامية الجزائر مثلاً، فلا بد له من أن يتقنها جميعها، بخلاف هذا المترجم من اللغة الفرنسية أو من الإنجليزية إلى غيرها فإنه بإتقانه اللغة الفرنسية أو الإنجليزية يمكن أن يترجم لكل بلد فرنسي بالأصل أو إنجليزي، أو لكل بلد ناطق بها.
لعل متوهماً يتوهم أن السبب في ذلك هو وحدة الدولة المستعمِرة أي: إذا كانت فرنسا هي الدولة التي استعمرت توغو وبنين وكوت ديفوار وغيرها فإن المترجم من أيٍّ هذه الدول يمكن يترجم لدولة أخرى ناطقة بالفرنسية؛ لأن مصدر لغة كل هذه الدول هو فرنسا, والصحيح أن هذا ليس السببَ فإن المترجم الذي يتقن فرنسية فرنسا يمكن له أن يترجم فرنسية كندا أيضاٍ دون أن يحتاج إلى تعلمها من جديد.
وهكذا الحال مع الدول الإنجليزية بالأصل، أو الناطقة بالإنجليزية فالذي يسافر من نيجيريا وهو قد تعلم الإنجليزية فيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليس مثل هذا الذي لا يفهم ما يقولون له هناك، وإن كانت هنالك فروقات بسيطة ويمكن أن يتعداها بسهولة وبحسن الاستماع، وهنا لا نغفل عن الفرق الذي بين إنجليزية بريطانيا وإنجليزية الولايات المتحدة الأمريكية، رغم هذا الفرق فإن المتعلم المترجم ليس أمامه عائق كبير لأن يفهم ما يقوله هؤلاء كلهم. وهكذا الحال مع الناطق الأصلي للفرنسية أو الإنجليزية إلا أنه أسرع فهماً لها.
وهنا نتساءل: هل هذه المشكلة سيواجهها مترجمو لغة أخرى في الكان دون الآخرين؟
للإجابة عن هذا السؤال نقول إن اللغة الفصحى من الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، تغني المترجمَ عن عاميتها لأنها أقرب إلى الفصحى فإن مترجماً واحداً يمكن أن يقوم بمهام الترجمة لوفد نيجيريا وغانا وغامبيا في المؤتمرات الصحفية وفي غيرها، وكذلك المترجم من اللغة الفرنسية يمكن أن يترجم لوفد مالي وبوركينا وغينيا والسنغال كل هذه البلدان التي ذكرناها وحتى غيرها لا تدخل في مسألة العامية؛ لأن هؤلاء الوفود سيتكلمون باللغة الفصحى، ولكننا ذكرنا العامية لنعرف أن المتكلم بعامية يدرك ما يقوله متكلم بعامية أخرى إذا كانت تجمعهما لغة فصحى واحدة، ومثلنا ذلك بفرنسية فرنسا مع كندا وإنجليزية الولايات المتحدة مع بريطانيا، علماً أن الأمر نفسه في عاميتيهما. بينما يختلف الأمر في اللغة العربية فإن مترجماً واحداً لا يمكن له أن يقوم بمهام الترجمة لكل مِن مصر والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا إذا تحدثوا بعامياتهم المختلفة، هذا إذا كان المترجم لم يعش في هذه البلدان المختلفة أو تعلم عامياتها. ويستوي في ذلك المترجم العربي والمترجم الذي تعلم العربية. نعم قد يفهم المترجم العربي المصري عامية المغرب مثلاً، ولكنه لا يفهم عاميات بقية الدول العربية رغم أن العربية تجمعها كلها، كالحال في الخليج العربي فإن الخليجي يفهم عامية الشامي ولكنه لا يفهم عامية الجزائر مثلاً.
ما الحل لهذه المشكلة لدى المترجم من العربية في الكان؟
الحل سهل لو كانت المنتخبات العربية يمكن لها أن تتحدث بالعربية الفصحى إذا طولبوا بذلك. لا نقول لهم التزموا بقواعد اللغة العربية من حيث الحركات، ربما لا يستطيعون ذلك, لكن المهم أن تكونوا -على الأقل- قادرين على تَكوين جملة مفيدة لتعبروا عما تريدون في المؤتمرات الصحفية أو في غيرها، ولكن هل يستطيعون؟
وإذا لم يستطيعوا فما مهام الطالب المستعرب الإيفواري في الترجمة من العربية بمناسبة الكان في بلاده؟
لا شك أن المستعرب الذي لم يقطن في هذه البلاد لن يجد مهاماً في هذه المناسبة، ولعل الذي يمكن أن يستفيد هو الذي قطن في بلادهم وهنا مشكلة أخرى وهي: هل ستحتاج الدولة (كوت ديفوار) إلى مستعرب مترجم درَس في مصر ليترجم للناس ما يقوله وفدُ مصر؟ ثم تبحث الدولة عن آخرَ درَس في الجزائر ويفعل ما يفعله الأول؟ وهذا مما يعني أنها ستبحث عن مترجم مستعرب لكل هذه الدول العربية. بإمكان الدولة أن تفعل ذلك ولكن الذي لا شك فيه هو أن هناك أسهل من هذا، وهو أن تطالب الوفود العربية باللغة البديلة عندها في بلدها فالوفد المصري يتحدث بالإنجليزية والوفد التونسي والجزائري يتحدث بالفرنسية وهكذا دواليك. وبهذا تسقط مهام المترجمين المستعربين جميعاً من هذه المناسبة والله المستعان وعليه التكلان.
** **
طالب في جامعة الملك سعود - مرحلة البكالوريوس - قسم اللغة العربية - كوت ديفوار