لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار وما هذه الدنيا بدار قرار.
كدرني نبأ وفاة الصديق الوفي والرجل الصالح الشيخ إبراهيم بن محمد الخريجي بعد عمر مديد حافل بالأعمال الصالحة وخدمة دينه ووطنه وولاة أمره.
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم
يموت بموته خلق كثير
ووفاءً منا للفقيد نستعرض نزراً من سيرته الحافلة حيث ولد في بلدة المزاحمية غرب مدينة الرياض سنة (1332هـ) ونشأ بها. وكان والده قد انتقل من بلدة ضرماء إلى المزاحمية وتزوج من والدته وأنجب إبراهيم، ثم توفي وعمر ابنه إبراهيم (ثلاثة) أشهر.
ومن اللطائف أن محمداً والد إبراهيم عُمّر وعاش (117) عاماً، وأنجب إبراهيم وقد تجاوز عمره المائة عام. فيكون إبراهيم بن محمد (رَجْعاً) بينه وبين أبيه (117) عاماً.
وعاش إبراهيم يتيماً في ظروف صعبة حيث كان الجوع والفقر يخيم على بلدات نجد بشكل عام. ولما ناهز الرابعة عشرة من عمره، فرّ من أهله وتوجّه إلى مدينة الرياض.
وهذه النقلة أذكت قدراته فهو فصيح اللسان سريع الفهم جيد الحفظ، جرئ ومتطلع، ويتمتع بشجاعة وقوة بدنية فائقة.
وفي الرياض جالس العلماء والقضاة. وخالط التجار والشعراء والأعيان. وشاهد الملك المؤسس وخاطبه مباشرة، وخالط أبناءه.
وقد خاوى عند الأمير سعود بن عبدالرحمن الفيصل (شقيق الملك عبدالعزيز) وكان يخاف على حفيده سعد بن محمد بن سعود بن عبد الرحمن، فكلف (إبراهيم الخريجي) ليكون مرافقاً لحفيده مقابل شرهة (30 ريالاً) في رمضان وكسوة (عباة)، وهي أول عباة لبسها إبراهيم.
ثم رافق الأمير فيصل بن عبدالله بن عبدالرحمن وأهداه فرد (مسدس) لأنه تفوق على غيره في الرماية، وكان الأمير عبدالله بن عبدالرحمن يسأل جلساءه عن الأصول الثلاثة والمسائل الأربع، وقد أثنى على جودة حفظ (إبراهيم) وهذا الثناء رفع من همته في الحفظ والتعلم.
كان (إبراهيم) يرافق (يخاوي) الأمير سعد بن محمد بن سعود بن عبدالرحمن في ذهابه للمدرسة (وهي مدرسة محمد بن سنان التي كان يدرس فيها أبناء الملك عبد العزيز). ومن هذه المرافقة تحصل على مبادئ مهمة في اللغة والأدب والفقه والشريعة والحساب، وحفظ من القصائد العربية، واكتسب الأحرف وبعض الكلمات من اللغة الإنجليزية، وأعجب به الشيخ محمد بن سنان، وصار إبراهيم (مطوع)، أي ملتزماً بالدين، وصار يتردد على ابن سنان ويحضر دروسه. وبعد أن لبس العباة أحس بأنه كبير، وبدأ يخالط المشايخ، ويتصرف كما يتصرف المطاوعة، كقيام الليل وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ المواعظ وإلقائها. وكان يكتب بخط جميل سليم. وكان الشيخ القاضي عبدالله بن زاحم جاراً لفيصل بن عبدالله بن عبدالرحمن ولما أرسل الملك عبدالعزيز الشيخ ابن زاحم قاضياً على المدينة أخذ معه ثلة وكان إبراهيم من بينهم، وذلك في شوال 1363هـ، وبقي في مكة حتى نهاية الحج ثم توجه للمدينة.
وبقي إبراهيم في المدينة قرابة السنتين، وفي تلك الفترة (السنتين) برزت هويته التي عرفه الناس بها حتى وفاته. فقد أتقن المفصل والتجويد على يد الشيخ سعد وقاص المدرس بالمسجد الحرام بمكة. ثم لازم الشيخ ابن زاحم لمدة سنتين، كما تعرف على الشيخ عبد الكريم الخريجي وهو من أثرياء المدينة النبوية ووجهائها وأعيانها.
وخلال تلك الفترة كان قد أتقن التجويد والعربية والحساب والفرائض وأبواب الفقه وكتاب التوحيد. ورجع من المدينة النبوية وسكن بلدة ضرماء، وعمره يقارب الـ (33) عاماً، ولازم قاضي ضرماء الشيخ عبد العزيز بن عتيق. وانتقل إلى الرياض وعمل في قصور الملك عبدالعزيز مع ابن عمه عبدالعزيز بن محمد الخريجي وهو شقيق زوجته والمشهور (بابن خليف).
ثم انتقل إلى مدينة الخرج، وقد فتح الله عليه في الوظائف الحكومية، وكان محل ثقة من ولاة الأمر. وبسبب قدراته الإدارية، وصدقه وأمانته، أثناء عمله بإمارة الخرج والمالية ومحكمة الخرج ثم بلدية الخرج؛ فقد نشأ بينه وبين الأمير سلمان بن عبد العزيز (أمير الرياض إذ ذاك؛ خادم الحرمين الشريفين حالياً)؛ علاقة خاصة، وقد أحال إلى شخصه بعض المهام الرسمية المعضلة التي استعصى حلها. وقد لازم شيخه عبدالعزيز الشعيبي مدة تزيد على الـ (30) عاماً وقد استفاد منه غاية الإفادة. وكان ملازماً لحلقة القرآن في المسجد بعد صلاة الفجر إلى أن تعذر عليه الوصول إلى المسجد في سنواته الأخيرة.
وقد عرف عنه ملازمة العبادة وقيام الليل والذكر، واعتكاف رمضان، وصلة الرحم، ومحبة العلم، والتمسك بالسنة، وإحياء المجالس بالسيرة النبوية وسير الصحابة والأئمة، وأشعار الزهد والحكمة. وكان ناصحاً لولاة الأمر، ولعامة المسلمين، مصلحاً، قواماً لله لا تأخذه لومة لائم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعين المحتاج، ويقبل النصيحة، ويطلب الحق، ويزهد في الدنيا ويرغب فيما عند الله. ومع كثرة الأصحاب الذين كان يحرص على زيارتهم مدة حياتهم، ومع كثرة المحبين في الله، إلا أن له صحبة خاصة متصلة مدة سكنه في الخرج مع الشيخ عبدالله الخليفة والشيخ إبراهيم القرعاوي والشيخ سليمان الحناكي. وقد توفي صبيحة الثلاثاء 13-6-1445هـ بمستشفى المصانع الحربية بالخرج وكان قد لحقه تعب في الشهر الأخير من حياته، واشتد عليه التعب في أيامه الأخيرة، حتى توفاه الله صابراً محتسباً ذاكراً شاكراً. وقد شيعه جمهور المحبين في مقبرة النسيم. فاللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
** **
- سليمان السالم الحناكي