الاقتصاد هو فضيلة بين نقيصتين. وهو الحد القوام بين الإسراف وبين التقتير أو البخل أو الشح. قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29) سورة الإسراء، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما عال من اقتصد) وقال: (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة) وقال: ثلاث منجيات: (خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب) وقال: (من اقتصد أغناه الله، ومن بذر أفقره الله).
الفضيلة أمر محبوب يريده كل إنسان، ولكن كثيراً من الناس من ضل الطريق الموصل إليها، فهم يلتمسونها على غير هدى. فمنهم من يظن أنها في المبالغة في الأمر، ومنهم من يظن أنها في التهاون فيه.
فهم على طرفي نقيض و(كلا طرفي قصد الأمور ذميم) وقليل من يسلك قصد السبيل ويلتمسها في أوسط الأمور، وقد قيل: (حب التناهي غلط، خير الأمور الوسط) والوسط هو الاقتصاد، لأنه يحمل المرء على أن لا يضيق على نفسه، ولا على عياله، ولا على أمته التي يكسب من خيرها، ويجني من ثمرات أعمالها، ويحسن إليه أن لا ينفق أمواله فيما لا فائدة حقيقية فيه تعود إليه وعلى أمته.
يقول الشيخ الأديب مصطفى الغلاييني في كتابه (أريج الزهر): العاقل من يسلك سبيل الاقتصاد، وينظر إلى أمواله نظر المستغني عنها المحتاج إليها.
فإن فعل ذلك كان سعيداً في ماله، وعاش عيش الأغنياء.
إن الاقتصاد هو تدبير من شخص يقصد به زيادة ثروته، ليتمكَّن من أن يعيش عيشة راضية، وليدفع بذلك عن نفسه وعن أسرته غائلة الفقر والحاجة، في الحال والاستقبال. بشرط أن ينفق أقل مما يكسب، ثم يعمد إلى الباقي فيجعله بحيث يأمن عليه.
ولا فرق بين أن يكون الشيء الذي اكتسبه قليلاً أو كثيراً فإن القليل يكثر متى ضم إليه قليل مثله، حتى يتألف منه مع الثبات على اقتصاده ثروة عظيمة يستعين بها المقتصد على نوائب الدهر وحادثات الزمان.
فإن المرء لا يدري ما يأتيه به المستقبل، لأنه يجهل الغيب. فالدهر أبو العجائب، وصروف الأيام أمها، وحالة المرء بينهما، يدفعها الأول فتتلقاها الثانية، فتبقى حاملا بها إلى أن تتمخض، ثم هو لا يعرف ماذا تلد له؟ فإن كان المرء عاقلاً فإنه يتقي صروف الدهر بما يحتفظ به من المال ليدفع عنه عواديها.
إن كثيراً من الناس استغنوا بعد الفقر حتى صاروا من كبار الأغنياء. وما سبب غناهم إلا الاقتصاد في المعيشة، فقد كانوا يقتصدون جزأ قليلا مما يكسبون وبعد مدة توفر لديهم مال كاف، فتاجروا به وربحوا، وصاروا من أعاظم الأغنياء , ومن هؤلاء جمهور عظيم من المثرين في أمريكا وأوروبا، وفي بلادنا منهم أيضا قسم ليس بالقليل.
غير أن كثيراً من الشبان عندنا لا يلتفتون إلى هذا الأمر المهم! فهم ينفقون كل ما يكسبونه ولا يدخرون للأيام القابلة شيئاً.
ومن الغريب الذي يبكي العاقل أنهم ينفقون تلك الأموال على ما يجلب لهم الأمراض وسوء السمعة في الحياة الدنيا، ويسبب لهم المقت في الدار الآخرة.
وجدير بالذكر القول إن للاقتصاد ونماء الثروة طرقاً كثيرة: أهمها أن لا ينفق على شيء إلا بقدر ما ينتفع منه، وأن لا يقتني من المأكل والملبس إلا ما يلزمه، وأن يعيش عيشة أمثاله، وحسب المكان الذي هو فيه وأن ينفق أقل مما يكسب، وأن يبتعد عن الاستدانة بقدر الإمكان. فإن كان لا بد من ذلك فعليه أن يبذل الجهد لإيفاء الدين في موعده.