كلية سان فرانسيسكو ستيت كوليج (San Francisco State College) كانت مكان الحدث، وكنت في السنة الأولى بالجامعة، وقد سجلت مادة اختيارية (elective) في المبارزة (fencing) وهنا تبدأ قصتي مع القدر الذي كان بطله الدكتور إس أي هاياكاوا (SI. Hayakawa).
ذهبت في أول يوم متحمساً للتعرف على هذه الرياضة التي رأيت فيها معاني الشموخ والسمو والشجاعة، وكان هناك العديد من الطلبة, وبدأنا حصة التعرف بشرح عن تاريخ الرياضة ورسالتها وكذلك احتياجاتها من الملابس والمعدات، لتحضيرها لحصة للأسبوع القادم. عدنا في ثاني أسبوع وبدأنا التدريب واقترب مني أحد الطلبة، وكان يبدو أكبر سناً مني، وتبدو عليه الملامح اليابانية، وكان هناك الكثير من الآسيويين بالجامعة، وطلب مني أن نتمرن مع بعض. عرّف نفسه وقال لي: سيد آل سعود أنا أعرف عنكم وأخي كانت له علاقات مع بلدكم، قلت له: أهلاً وسهلاً، وبدأنا بالتدريب مرت عدة حصص، ثم توقفت الدراسة بالجامعة بسبب أحداث الطلبة التي بدأت بجامعة كاليفورنيا, وكان أهم أحداثها تلك التي انتشرت في جامعتنا؛ حيث حضرت قوات مكافحة الشغب بلباسهم الأسود المهيب وعصيهم وتروسهم, وكنا نراقب الموقف كزملاء سعوديين، ليس لنا في الحدث لا ناقة ولا جمل، لكنا لم نفلت من عصي القوات عندما هاجمت الطلبة، وكنا واقفين مع الجمع نراقب و نستمع إلى الخطابات الحماسية، ثم بدأنا بالهرب مع الجمع وتلقينا عدة ضربات. في الأيام التالية أقيلت إدارة الجامعة وعين رئيس جديد كتبت عنه جميع الصحف تشيد بشجاعته عندما نزل بنفسه إلى الساحة مواجهاً المتظاهرين للتفاهم معهم وعدم السماح لهم باستباحة حرم الجامعة، حتى أنه تسلق الشاحنة التي عليها المايكروفونات وقطع أسلاكها بيديه.
وبينما كنت أتصفح صحيفة الجامعة دهشت عندما رأيت صورة صديقي في المبارزة تحمل عنوان الدكتور هاياكاوا يعين رئيساً للجامعة, جمعت بعض الزملاء السعوديين وذهبنا لتهنئة صديقنا، بدون موعد وتحت هذه الظروف ذهبنا لمكتبه، واستقبلتنا السكرتيرة لتحديد موعد لكننا أصرينا على مقابلته، وقد سمع حوارنا مع السكرتيرة، وخرج من مكتبه مرحباً بنا.
هنا بدأت قصتي مع الدكتور هاياكاوا رفيق المبارزة التي كان لها دور كبير في تجربتي مع المجتمع الأمريكي. دعيت الدكتور وزوجته لتناول العشاء في مكان سكني، وكانت من أول تجاربي لطبخ (الكبسة التي أوشكت على الاحتراق). زوجة الدكتور كانت السيدة بيترز وهي أخت السيد وسلي پيترز المسؤول والمتابع لمدرسة فرانك لويد رايت (Frank loyd Wright) المشهورة، وقد فرحت بذلك؛ حيث إني كنت مهتماً بدراسة الفنّ المعماري.
مرت الأيام وكنت في رحلة عام 1974م من نيويورك إلى سان فرانسيسكو بالسيارة بالجنوب الأمريكي عندما توقفت في تيمبي أريزونا Tempe Arizona حيث شدني وجذب انتباهي مبنى توقفت أمامه، كان قاعة المحاضرات (الإيد توريوم) لجامعة تيمبي الذي صممه فرانك لويد رايت، واكتشفت أن أساسه قد صمم في الأربعينيات ليكون مبنى الأوبرا في بغداد, هنا قررت أن أعاود الاتصال برفيق المبارزة وطلبت منه أن يوصلني بأخي زوجته السيد ويسلي پيترز. رُتّبت لي زيارة المعهد بتليسين ويست (Tallesin West) (أريزونا وكانت في وقت عيد الفصح (Easter) حيث استضافوني، وقضيت ثلاثة أيام لا تُنسى قابلت فيها السيد پيترز وأرملة فرانك لويد رايت وهي روسية أرثودكسية سيدة قامة وقيمة وكذلك الأساتذة والطلبة حيث احتفلت معهم بتلوين البيض في تلك المناسبة وكانت تجربة فنية رائعة.
أعود مرة أخرى بسبب المبارزة لإقامة علاقة مميزة مع السيد أرين قرين (Aaron Green) وهو المسؤول عن مكتب فرانك لويد رايت في سان فرانسيسكو وبدأت تنشأ بيننا علاقة وطيدة لسنوات, بدأنا في تصميم حلم مركز ثقافي في پورتولا قالي (Portal Valley) مرتفعات بالو ألتو (Palo to) وفي مزرعة اليونيكورن (The Unicorn Ranch) بالتعاون مع جامعة ستانفورد (Stanford) ومع المؤرخ الكبير جورج رنتز (George Rentz) في معهد الهوفر للأبحاث (Hoover Institute) بجامعة ستانفورد الذي تعرفت عليه ونشأت صداقة بيننا تعلمت منها الكثير عن تجاربه في المملكة مع شركة أرامكو، وهنا أذكر قصة لطيفة عندما كان يترجم للملك عبدالعزيز وهم يعرضون عليه فيلماً عن الكاو بويز (Cowboys) الأمريكي، فكان الملك عبد العزيز يتململ قليلاً فأخبروه أن هناك أفلاماً أخرى إذا أراد جلالته أن يراها هنا طلب تغيير الفيلم وبدأوا بعرض فيلم عن طبيعة مدينة ميامي، تبسم جلالته قائلاً -يرحمه الله- «هذا إلي نبي نشوفه، الحرب والخيل عارفينها أما ذا ما نعرفه».
لكن لم يرد الله أن أحقق حلم المركز؛ لظروف تتعلق بعودتي للمملكة مبكراً، وكذلك تخلصي من مزرعة اليونيكورن لبعض الصعوبات القانونية، كما لم أوفق في إكمال رياضة المبارزة التي كانت حلماً أوقفته انتفاضة الطلبة بسان فرانسيسكو، حيث نقلتني إلى ألبي آريا (Bay Area) كلية مينلو (MenloCollege) ثم جامعة ستانفورد (Stanford University) الذي كانت لي فيه أجمل مبارزة مع الفكر وتطوير الذات، وكما ذكرت أيضاً لم يتحقق حلمي الآخر ببناء المركز الثقافي مع مؤسسة فرانك لويد رايت.
ختاماً أنا سعيد أن أرى هذه البطولة العالمية للمبارزة تقام في المملكة العربية السعودية التي ذكرتني بأيام سعيدة وتجارب لا تُنسى أيام الدراسة والمبارزة مع الذات.
** **
- فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود