تستمع لي بكل جوارحك لأن أحاديثي معك خارجة عن المألوف لا تخضع لمقص الرقيب، وأجد فيها متعة مفرطة حين تحسسني أنني جدير بالاستماع. تنقلني إلى عوالم أخرى لما تتحدث في كلمات بسيطة وموجزة وعميقة عن أزمة الفكر والثقافة لدينا، وتترك لي كل المساحات لأهذي وتصغي في اهتمام منقطع النظير لِما أقول فأكون في حضرتك أو لا أكون.
تعرفت عليك قبل 50 سنة وأنا في سن الثانية عشرة، وأخذت شجرة الصداقة تنمو وتترعرع وتروي أوراقها في كل اتصال أتلقاه منك تدعوني فيه إلى مقابلتك ومسامرتك.
تعلمت منك جميل الإصغاء، فأنّى لي أن أصل لما وصلت إليه من العلم والجاه والمنصب يكسوها التواضع الجم، من الكيف والكم.
تختارني من بين العشرات بل المئات لحضور بعض المناسبات الخاصة، وتتركني أتحدث لضيوفك المميزين فأرى في عينيك ابتسامة الرضا والفخر، ولا فخر لي في حضرتك، وفي بلوغ علو قامتك.
هل تذكر آخر حديث بيننا عندما قلت: ألا ترى أننا في مجالسنا، ومِن على منابرنا، وفي مواعظنا، نردد: قال الشيخ فلان وقال الشيخ علاّن، وننسى: قال الله وقال الرسول عليه السلام. وقد قال ابن عباس: (أقول لكم قال الرسول، وتقولون قال أبو بكر وعمر).
وأجبتك: اتفقنا أننا أمة شفهية وصوتية، وفي رأيي غير المتواضع وظني غير الآثم أننا أمة تعاني من الانفصام والتناقض أيضًا.
ودار نقاش فريد وجميل بين الأستاذ (أنت) وتلميذك (أنا) أحتفظ به لنفسي ليزيدني تفرداً وتميزاً.
ليلة يوم 27 إبريل 2024 ألقيت عصا الترحال، وفي الرياض وافاك الأجل.
لن أذرف دمعة واحدة على رحيلك وليس ذلك نكراناً أو جحوداً لمعلم منحني فرصة للكتابة والحديث، بل لتقديري واحترامي وحبي لك. أنت عبد الرحمن لم ولن تموت في ذاكرتي ولا في أحاديثي. لا زلت تنعم بحياة أبدية جميلة في أذهان من يعرفوك. بنيت قصوراً من المحبة والإخاء والوفاء والعطاء، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
لن أرثيك لأن سيرتك تعانق عنان السماء
تقصر معها قصائد الرثاء
والذي فلق الحب والنوى
وأخرج المرعى
فليس مثلك من يُرثى ويُنعى
(المعمر) حي في اللاوعي
ويموت في الوعي الرثاء والنعي
دمت حياً في ذاكرة ووجدان أبنائك وعائلتك ومحبيك
وأنا أولهم ولست آخرهم.
** **
- علي عويض الأزوري