الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
قضية الحفظ وعلاقتها بتلقي التعليم لاتزال تطرح بين الفينة والأخرى على مستوى مصادر التأثير والقرار في المنحنى التعليمي التربوي في البلاد العربية والإسلامية، ولم تزل مؤسسات التأثير في التعليم العام والمتخصص في الأوساط الغربية بل والشرقية والتي لا ترفع رأساً بمناهج التعليم الإسلامية وخصوصياتها بكونها شرعية ربانية.
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين في العلوم الشرعية لمعرفة رؤيتهم حول ذلك؛ فماذا قالوا؟
الحفظ والفهم
يؤكد الدكتور بدر بن محمد المعيقل عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الجوف سابقاً على أن الحفظ والفهم في العملية التعليمية أمران متلازمان، لا ينفكان أبداً عن بعضهما البعض، وذلك على السواء، في العلوم النظرية أو العلوم التجريبية؛ فقواعد العلوم التجريبية وقوانينها ونظرياتها، التي تبنى عليها، لا بد من حفظها حفظاً تاماً، قبل تطبيق ذلك وتحويله إلى تجربة، لذلك: لابد أن يُعلم أن التزهيد في أمر الحفظ، هو تسطيح للعملية التعليمية كاملة، ناهيك عن العلوم الإنسانية، وعلى رأسها العلوم الشرعية، التي تعتمد الحفظ منهجاً وأسّاً وأساساً لها في تعليم علومها، وينطبق ذلك على غيره من العلوم: كالأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها، ولا أحد يجادل في أهمية الحفظ في هذه العلوم، وهنا تأتي ازدواجية المعايير، وتضارب المفاهيم، وتعارض القيم، في أمر الحفظ وعلومه الشرعية المختلفة، من فقه وحديث وعقيدة وتفسير، وعلوم آله: كمصطلح الحديث، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية، وأصول التفسير وغيرها، والله أعلم وأحكم.
الخلط العجيب
ويشير الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل أستاذ الدراسات العليا في العلوم الشرعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً: إلى أن قضية الحفظ وعلاقتها بتلقي التعليم، أضحى الخلط فيها عجيباً بل ومريباً.
إننا نفرق بين نوعين من أنواع العلم فأولاً: العلم الديني وهو المتعلق بالديانة التي يتدين بها المتعلم صغيراً كان أو كبيراً، وثانياً: بين العلم الدنيوي وهو المتعلم بالعلوم المادية المتعلقة بمناحي التطور والتجريب والتركيب المادي إن صح التعبير.
وكلا النوعين يفتقران إلى قدر متفاوت من الحفظ المعتمد على التلقين فجدول الضرب مثلاً: لابد فيه ولاسيما في مراحل التعليم الأولى من التلقين، وقل مثل ذلك في النظريات الرياضية.
على أنه في التعليم الديني الشرعي كحفظ القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحفظ فيها شرط أساس، وطريق لابد منه للفهم ومن ثم الاعتقاد والعمل، وإن القدح فيه قدح في النبوة والوحي من جهة تلقينه من الله عز وجل، ومن جهة إبلاغه للناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم بل والأنبياء قبله إلى أممهم، ويدلل على ذلك وصف الله لنبيه ولأهل العلم بقوله تعالى في سورة العنكبوت {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.
والنبي صلى الله عليه وسلم في تلقينه أصحابه، ثم الصحابة من بعدهم وحي الله في الكتاب والحديث تعويلاً على هذا الملكة (الحفظ) والتي أضحت أبرز سمات حضارة المسلمين في حفظ دينهم- نعم لما جربنا ترك الحفظ إلى حد بعيد في مناهج التعليم النظرية -الشرعية والعربية- خرجت مؤسسات التعليم حتى العليا منها كتبةً وقراءً في أحسن الأحوال وغاب تخريج العلماء الذين حوت صدورهم العلم حفظاً تعّول عليه الفهم والدعوة وبعده النظر والعمل، فما أكثر الدكاترة وحملة المؤهلات وقلة العلماء والفقهاء والله المستعان وهو سبحانه أحكم والله أعلم.
ضرورة الحفظ
ويقول الدكتور مقبل الرفيعي الحربي الأستاذ بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: الحمد لله الذي حفظ كتابه الكريم من التغيير والتبديل والتحريف قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر. وجعل حفظه في الصدور كما في الحديث «وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء» [رواه مسلم 2865] والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي كان حفظه من معجزاته قال تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى}، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي جمعه في صدرك ثم أن تقرأه بلسانك متى شئت. ورضي الله عن صحابته الغر الميامين الذين حفظوا ما تلقوه غضاً طرياً من في الرسول صلى الله عليه وسلم قرآناً وسنة وما شهدوه من أفعاله وسيره وأوصافه فإن الله تبارك وتعالى منحهم سعة الحفظ وسيلان الأذهان فحملوا شريعة الإسلام عن خير الأنام صلى الله عليه وسلم وكان أكثرهم رضي الله عنهم لا يعرفون الكتابة بل يعتمدون على الحفظ ولولا فضل الله عليهم بقوة الحفظ لضاع الدين بالتغيير والتحريف وكانوا يأخذون نصوص الشريعة لفظاً ويؤدونها حفظاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة لمن حفظ حديثه فعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» رواه أبوداود [3660] بسند صحيح. والمراد بحامل فقه هو حافظ الأدلة، ومما لاشك فيه أن العقل البشري مستودع للعلم وينمو بطلبه من معينه ويزكو بالرحلة في تحصيله فإذا استوعب حفظه له فهم مقاصده منه، ولنذكر مثلاً في أهمية الحفظ في حياتنا المعاصرة فإنه لا يمكن للطالب إتقان لغة ما، ما لم يحفظ مفرداتها ويعرف مدلولاتها وتراكيبها وما هذه الاختبارات التي تجرى للطلاب في المدارس والجامعات إلا لمعرفة تحصيلهم العلمي وفهمهم المبني على حفظه في الأغلب الأعم.
الحفظ الأساس
ويشدد الدكتور محمد بن عبدالله الصواط الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، الخبير بمجمع الفقه الإسلامي: إن للحفظ دوراً كبيراً في التعليم، فتراثنا في أول أمره وصل إلينا عن طريق الحفظ والرواية، فقد وعته الصدور قبل أن تدونه السطور، فالحفظ هو الأساس، ولذلك حثوا عليه ومدحوا أهله
يقول الشاعر:
أأشهد بالحق في مجلس
وعلمي في البيت مستودع
إذا لم تكن حافظا واعيا
فحفظك للكتب لا ينفع
وقد قرر ابن خلدون أن الحفظ هو أفضل وسيلة لرسوخ الملكات وتنميتها، وفي ذلك يقول: «إن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم، وخالط عبارتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم».
وقد يعترض بعضهم بأن الحفظ بدون فهم مضيعة لوقت الطالب وغير مجد في العملية التعليمية، وهذا غير صحيح فإن الحفظ والتكرار ممهد للفهم، وفي ذلك يقول أبو الفتح عثمان بن جني: «قال لنا أبو علي الفارسي يومًا قال لنا أبو بكر ابن السراج: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه».
وهذا كلام صحيح، يصدِّقه الواقع وتؤكده التجربة، فإنَّ الإلحاح بالحفظ الدائم المستمر مما يمهد للفهم لا محالة، وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني وهم بالقطع لا يعرفون كثيراً من معاني مفرداته فضلاً عن تراكيبه، ولكنهم بمرور الأيام يدركون ويفهمون، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
عدم التعارض
ويبين الدكتور طلال بن سليمان الدوسري أستاذ الفقه المقارن في جامعة القصيم، إلى أنّ من أبرز الركائز التي لا يستغني عنها الراغب في تحصيل العلم: الحفظ، فلا بد للطالب أن يأخذ منه بحظ وافر، مع الركائز الأخرى كأخذ العلم من الأشياخ وتلمس السمت والأدب منهم، والقراءة والبحث والمذاكرة مع الأقران.
وعلى رأس المحفوظات: كتاب الله تعالى الذي هو رأس علوم الشريعة ومنه استمدادها، ثم ما يفتح الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أحاديث الأحكام وما تيسر من المتون في شتى الفنون.
ولا ينبغي توهم المفاضلة بين الفهم والحفظ؛ إذ لا غنى لطالب العلم عنهما، بل يستعين بأحدهما على الآخر، والاستعانة على الحفظ بالفهم ظاهرة إذ حفظ ما يفهم معناه أيسر من حفظ ما ليس كذلك، وكذلك الحفظ معين على الفهم قال أبو الفتح عثمان بن جني: «قال لنا أبو علي-يعني الفارسي-يوماً قال لنا أبو بكر- يعني ابن السراج-: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه».
وتتأكد العناية بالحفظ وتوجيه الهمة إليه في مقتبل العمر فإن قدرة الصغار على الحفظ أقوى ممن تقدم في العمر؛ لعدم الصوارف لهم، ولذا فإن من النصيحة لهم توجيههم للحفظ في مقتبل أعمارهم ليشتغلوا بعد ذلك في تفهم محفوظهم والإحاطة به.
وقد تابعت كلمات العلماء والحفاظ في التأكيد على الحفظ وقدر العلم المحفوظ في الصدر عن المسطور في الكتب، قال الأول:
عِلْمِي مَعِي أَيْنَمَا يَمَّمْتُ يَتْبَعُنِي
َبطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدِوقِ
إِنْ كُنْتُ فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي
أَوْ كُنْتُ فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ
وقال آخر:
لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمَطْرُ
مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ
فَذَاكَ فِيهِ شَرَفٌ وَفَخْرُ
وَزِينَةٌ جَلِيلَةٌ وَقَدْرُ
وقال الأصمعي: «كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم»، والكلام في هذا المعنى يطول جداً والمقصود الإشارة إلى عدم تعارض الحفظ والفهم وأهمية الجمع بينهما.
جدلية المقارنة
وتبين الدكتورة سارة بنت ملتع القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الكويت إلى أن جدلية المقارنة بين الحفظ والفهم في العملية التعليمية لاتزال تتقد جذوتها بين المهتمين في شتى العلوم بناءً على تجاربهم المختلفة من حيث موضوع وطبيعة العلم من جهة ومن حيث مستويات وأعمار الطلبة من جهة اخرى ومن حيث أدوات التعليم والخبرة في استخدامها من جهة ثالثة. وليس من العدل عقد المقارنة في الأهمية بينهما في أيٍّ من العلوم إذ الحفظ والفهم لأي علم كالوجهين للعملة الواحدة لا يمكن أن يستغنى بأحدهما عن الآخر، سواء على المستوى الكلي للعلم أو على المستوى الجزئي للمتعلم للأسباب الآتية:
-1 لكل علم مقدماته التي يبنى عليها وألفاظه التي يختص بها، ولا يمكن للمتعلم أن يتجاوزها لما هو أعلا منها بالفهم دون الحفظ.
2 - العلم عملية تراكمية بين علوم شتى، فبين كل علم وآخر أنساب وعوالق لا يمكن فهم تلك العلائق والأنساب دون حفظها، كما لا يمكن توظيف هذا العلم والاستفادة منه دون فهم تلك العلائق والأنساب.
3 - الحفظ والفهم وسيلتان لتوظيف العلم، فالحفظ وسيلة لحفظ وجوده في الذاكرة، والفهم وسيلة لحفظ وجودة في الواقع العملي.
4 - من عجائب خلق الدماغ أن خطوات عملية الحفظ هي ذاتها خطوات عملية الفهم، ففي كلا العمليتين يقوم الدماغ بثلاث خطوات هي:
- التقاط المعلومة عن طريق إحدى الحواس ونقلها للدماغ.
- معالجة للمعلومة بحيث تصنف في موقع معين بالدماغ من خلال روابط يتم إنشاؤها.
- تخزين للمعلومة من خلال تقوية الروابط التي أنشأها عند المعالجة بمقارنتها مع غيرها من الروابط.
والاختلاف الجوهري بين عمليتي الحفظ والفهم يتحصل في أن الفاهم يهمل مرحلة التخزين فلا يركز عليها استناداً إلى الجهد الذي بذله في عملية المعالجة من إنشاء الروابط، إذ يقوم فيها بإنشاء روابط عديدة ومتشعبة وقوية، والحافظ يركز على مرحلة التخزين مهملاً مرحلة المعالجة التي قام فيها بإنشاء روابط ركيكة وخطية قليلة بين كل معلومة وأختها.
ومن عجيب قدرات العقل أن تكرار العلم (باسترجاع المحفوظ أو بتكرار القراءة) يؤدي إلى فهمه ولو مع وقت أطول. قال سيبويه -رحمه الله-: «كان الخليل بن أحمد يوصينا إذا لم نفهم المسألة أن نحفظها، ويقول: لابدَّ أن تفهمها في يوم من الأيام»!
لذا فإن المطلوب في العملية التعليمة:
1- على المستوى الكلي: أن ينجح المعلم في تحقيق الحد الأدنى لكل حافظ من الفهم والحد الأدنى لكل فاهم من الحفظ، ثم يتفاضل كلٌّ منهما بما حباه الله في العلم، إذ العلم عملية تراكمية تحتاج للحافظ وللفاهم.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نضَّرَ اللَّهُ امرَءًا سمعَ مقالتي فأداها كما سمعها، فربَّ مبلَّغٍ أوعى لَهُ من سامِعٍ».
2- على المستوى الجزئي أن يوازن طالب العلم بين الفهم والحفظ حسب قدراته ومهاراته.
وبمحاكاة بيت القطامي في المفاضلة بين التأني والعجلة وإسقاطه على المفاضلة بين الفهم والحفظ يمكن القول:
قد يدرك الفاهم بعض حاجته
وقد يكون مع الحافظ الزلل
وربما فات قوما بعض أمرهم
من الفهم وكان الحزم لو حفظوا
فذو الفهم مصيب في مقاصده
وذو الحفظ لا يخلو من الزلل