الموت حق, والناس جميعًا سائرون في هذا السبيل الذي نحن به موقنون, وبه مسلمون, ولكنه حينما يقع يترك في الأنفس حسرة, وفي القلوب لوعة, ويخيم الحزن على كل من حول الميت من قرابة وصحابة.
إنَّ حُزْنًا في سَاعَةِ المَوْتِ
أَضْعَافُ سُرُوْرٍ في سَاعَةِ المِيْلَادِ
ذهبت روح أبي بندر إلى بارئها, وظل ذكره الحسن, وسيظل إن شاء الله حاضرًا بين الأجيال؛ لما تركه من علم نافع, ولما عُرف به من طيب المعشر, وحسن الرفقة والصحبة, وبهاء الطلعة, وفعل الخير, وحلو الحديث والابتسامة التي لا تفارق محياه, وخلاف ذلك من كريم الأخلاق, وحسن الشمائل التي لا تحصى عدًّا, ولا تستقصى عددًا.
فَاْرفَعْ لِنَفْسِكَ بعد مَوْتِكَ ذِكْرَها
فالَّذكْرُ للإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانٍ
عرفت أبا بندر حينما التقيته لأول وهلة في جامعة القاهرة في عام 1976م, وكان كل منا يحضر لدرجة الماجستير في جامعته التي يعمل فيها معيدًا, هو في جامعة الملك عبدالعزيز بجدّة وأنا في جامعة الملك سعود بالرياض, وقد جئنا إلى القاهرة على غير ميعاد, وإنما من أجل هدف واحد هو جمع المادة العلمية من مكتباتها العريقة للاستفادة منها في كتابة رِسَالَتَيْنَا للماجستير اللتين كانتا - حينذاك - في طور الإعداد, شدّني أبو بندر حينما التقيته بفصاحة لسانه, وهذا ليس بغريب عليه وهو من أرومة قبيلة هذيل المعروفة بفصاحتها على مرّ التاريخ, وفاجأني بِبُنْيَتِه الجسمانية التي لا تدلل على أنه طالب في مرحلة الماجستير, فقد كان قضيفًا نحيلًا طفوليّ الوجه, لم ينبت شعر وجهه بعد, حتى إنني طننت أنه في المرحلة الثانوية, أو في سِنِيِّهِ الأولى بالجامعة, وما صدّقته إلا بعد أن لمست فيه ثقافته الواسعة, وما حدّثني به شخصيًّا من مطارحاته الأدبية والفكرية مع كبار الكتاب والأدباء والأكاديميين في زمانه على الرغم من حداثة سنّه. ثم توطّدت معرفتي بأبي بندر حينما التقينا للمرة الثانية في بريطانيا التي شاء الله لنا أن نُبتعث إليها للتحضير لدرجة الدكتوراه, فكان هو في جامعة أكستر في أقصى الجنوب, وأنا في جامعة درهام في أقصى الشمال, وزادت علاقتنا رسوخًا ووثوقًا حينما تأسس صندوق الطلبة, المبتعثين في بريطانيا بجهود مشكورة من صديق الطرفين أ.د. مرزوق بن تنباك, أستاذ الأدب في جامعة الملك سعود, وتبع ذلك إصدار مجلة الطالب التي كانت لسان حال الطلاب السعوديين المبتعثين إلى بريطانيا, فعُهد برئاسة تحريرها إلى صديق الجميع أ.د. عوض القوزي رحمه الله, وعضويّة كل من أ.د. عبدالله المعطاني رحمه الله, والدكتور محمد الأحمد أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود, وكاتب هذه الأسطر أحمد الزيلعي, وكنّا جميعًا نلتقي كل شهر في لندن لتحرير المجلة, واعتماد طباعتها, وكانت كل اجتماعاتنا ولقاءاتنا يسودها المحبة والألفة والصداقة التي لا تمحوها السنون.
وقد أوجد الصندوق الذي تحوّل اسمه فيما بعد إلى نادي الطلبة, جوًّا من الألفة والمحبّة بين المبتعثين السعوديين في ذلك الزمن ربما ليس له ما يماثله بين أولئك الذين سبقونا إلى الابتعاث إلى بريطانيا, وما أظنه استمرّ بعدنا بمثل ما كان عليه الحال في زماننا؛ لأسباب ليس هذا مكان ذكرها, فكنّا نعقد اجتماعات, ونقيم حفلات يحضرها زملاؤنا المبتعثون من داندي في أقصى جنوب شمال اسكتلندا إلى أكستر في أقصى إنجلترا, ومن تلك الاحتفالات احتفالنا بتخرّج الدكتور فواز الدهاس من جامعة أكستر, وهو صديق عُمْر, وزميل دراسة للدكتور عبدالله المعطاني, وأقمنا حفلة بمناسبة تخرّج الدكتور محمد نصيف من جامعة لانكستر في غرب إنجلترا, وآخر الحفلات التي أذكرها حفل تخرجي شخصيًّا من جامعة درهام, ذلك الحفل الذي حضره عدد كبير من الزملاء برعاية فضيلة الشيخ عبدالعزيز التركي الملحق الثقافي - حينذاك - في المملكة المتحدة الذي جاء رحمه الله بنفسه, ومن معه من لندن لرعاية ذلك الحفل الذي كان بهيجًا, والذي شارك فيه الدكتور عبدالله المعطاني بقصيدة من جِيْد ما نظم رحمه الله. وظلّ تواصلنا مستمرًّا بعد عودتنا من بريطانيا, فدعاني جزاه الله خيرًا إلى إلقاء محاضرة في النادي الأدبي بجدة, وقدّمني في تلك الأمسية ببلاغته المعهودة خير تقديم, وفي مجلس الشورى كنّا متلازمين كالظّل, عملنا معًا في لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بالمجلس, وحينما عُيّن نائبًا لرئيس مجلس الشورى فرح له زملاؤه كثيرًا, وظل قريبًا منهم حتى انتهت دورة للمجلس قبل أربع سنوات من الآن.
وهو شاعر باللسانين الفصيح والعاميّ, وفي كلا اللونين له شعر بديع, قريب المعاني, فيه شيء غير قليل من السلاسة والعذوبة, وهو أديب ومتحدّث لبق يأسرك بحلو حديثه, ويأخذك إلى عوالمه وتجاربه وأسفاره لا سيما ما يتعلق منها بالأندلس التي تخصّص في أدبها, وأحبها, وعشق تاريخها, وما سمعته قط يغتاب أحدًا, أو يشتم آخر, أو ينال من أعراض الناس, فأحبّه الناس, وأثنوا عليه حيًّا وميتًا.
مَضَى طَاهِرَ الأَثْوَابِ لم تَبْقَ رَوُضَةٌ
غَدَاةَ ثَوَى إلا اشْتَهَتْ أنها قَبْرُ
رحم الله معالي الأكاديمي البارز, والأديب الشاعر الدكتور عبدالله المعطاني, وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة, فقد ترك من العلم النافع, والذكر الحسن ما لا تمحوه السنون.
قد مَاتَ قَوْمٌ وما مَاتَتَ مَآِثرُهُم
وَعَاشَ قَوْمٌ وهم في النَّاسِ أَحْيَاءُ
** **
أ.د. أحمد بن عمر آل عقيل الزيلعي - قسم الآثار جامعة الملك سعود - الرياض