إن لفريضة الحج وفي موسمه وأيامه من الروائع والفضائل ما يعجز عن العدّ والوصف، بَيْدَ أنه يمكن إيراد بعض المواقف والقصص، لاستجلاء بعض الدروس والعبر والفوائد.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: حججنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول خلافته، فدخل المسجد الحرام حتى وقف على الحجر ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك.
وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه! قال ابن دينار: فقلت له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير! فقال عبد الله بن عمر: إنّ أبا هذا كان ودّاً لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أبر البِّر صلة الولد أهل وُدِّ أبيه.
من هاتين القصتين نفهم كيف يكون التأسي والاقتداء برسول الهدى، وكيف يكون بِّر الوالدين بعد موتهما، و يا لها من دروس.
رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يحمل امرأة عجوزاً على ظهره ويطوف بها البيت الحرام. فسأله: مَنْ هذه؟ قال له: إنها أمي، أتراني قد وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له ابن عمر: والله مهما فعلت بها فلن يعدل ذلك طلقة واحدة طلقتها فيك ساعة ولادتها.
الله أكبر ما أعظم حق الأم وأجلّ شأنها فيا ليت أن نقوم بذلك الحق على الوجه الذي يُرضي ربّنا.
كان لحاتم بن الأصم أولاد، فقال لهم: إني أريد الحج هذا العام. فبكوا، وقالوا: إلى مَنْ تكلنا يا أبانا؟. فقالت إحدى بناته: كفوا عن البكاء ودعوا أبانا يحج، فليس هو برازق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58). نام الأولاد جياع وجعلوا يلومون أختهم، فقالت: اللهم لا تؤجرني بينهم. فمرّ أمير البلد بهذا المكان وطلب ماءً فناوله أحدهم كوزاً جديداً وفيه ماء بارد، فشرب الأمير فسأله الأمير: دار مَنْ هذه؟ قال: دار حاتم بن الأصم فرمى الأمير قطعة من ذهب، وقال لأصحابه: مَنْ أحبّني فعل مثلي، فرموا كلهم مثله. فبكت بنت حاتم الأصم فقالت لها أمها: ما يبكيك وقد وسّع الله علينا؟ فقالت يا أماه، مخلوق نظر إلينا فاستغنينا وشكرنا، فما ظنك بالله جل وعلا لو نظر إلينا.
إلهي لستُ للفردوس أهلاً
ولا أقوى على نار الجحيم
فهبْ لي توبة واغفر ذنوبي
فإنك غافر الذنبِ العظيم
حجّ عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشي على رجليه حتى وقف بعرفات فأعتق ثلاثين مملوكاً وحملهم على ثلاثين راحلة وأمر لهم بثلاثين ألفاً، وقال: اعتقهم لله تعالى، لعله سبحانه يعتقني من النار.
هكذا فهم السلف الصالح هذا الشهر الفضيل وهذا الموسم الكريم، موسم الرحمات والغفران شهر التوبة والإنابة والسمو والصفاء.