حيث يتميز الإنسان عن الحيوان بالنطق، وبالقدرة على التفكير المجرد بفضلهما ينتقل معرفته وخبرته من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل؛ حيث تزداد المعارف والمهارات وزناً وغنى على مر السِّنين، وكلما اكتسب المرء معارف وعلوم وخبرات «ظريفة» ضمَّها إلى ثقافته وكسب من هذا الضم ثقافة حيَّة متطورة فالبعض من البشر يزن هذه الثَّقافة الموروثة بميزاني «العقل والعلم» فيحاول طرحهما على ما لا يتفق فيها مع هذين الميزانين وفيه هذا اجحاف ظاهر، فليس من شروط الثَّقافة تعتمد مقوِّماتها ومادَّتها على «العلم والعقل» فقط، لأنهما بدورهما عاجزان عن خلق ثقافة كاملة تغذي روح الإنسان وأهواءه وخياله وآماله وأحلامه ونزعاته الخلاقة الأصلية والذين يصدون عن ثقافة الآباء والأجداد لضعف قواعدها العلميَّة، يتخلون عن ذخر لا مثيل له من خبرة القدماء وحكمتهم وليس الابتعاد من تراث الآباء أهم ما يزعزع قواعد المدنية الحاضرة، بل هناك عوامل أخرى تنضم إليها، منها ثورة الجيل الحاضر على والديه ثورة حاقدة عنيفة.
لا جرم أن الخصومة بين الشَّبان والشَّيوخ، وبين المحدثين والقدامى، وبين المتحررين والمحافظين خصومة معروفة منذ العهود القديمة. حيث تبدأ في سن المراهقة عند المرء، حين يبدأ بتفضيل الابتكار على التّقليد، والجموع على الخضوع. وهي في الأصل فضيلة تهي، للناشئ تطوير شخصيته وتكييفها حسب بيئته الحديثة وتنتهي في الختام بعودته لبيئته التقليدية المألوفة، أو كما يقول علماء النفس «للطاعة المتأخرة» فإن ثورة هذا الجيل على والديه لا تشبه ما سبقها في الماضي - إنها أشد عنفاً يؤزها الحقد والغرور؟
ولها أبعاد جديدة ما عرفتها الأجيال السَّابقة. فقد نشأت هذه الأبعاد من سرعة تطور العلوم والمعارف وكذلك تبدل الحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة تبدلاً مذهلاً في سرعته. فقد كان الفرد في العصر الماضي لا يختلف كثيراً عن والديه في مجمل ثقافته. أما اليوم فالاختلاف كبير جداً وبين عقلية الآباء والأبناء أمر شائع ورهيب، يجعل الأبناء ينظرون إلى والديهم كأنهم جنس بشريِّ غريب لا يفهمون تصرفاته، ولا يقبلون آراءه وسيرته في الحياة، فإذا ما سئل الأبناء عن سبب هذا لم يعرفوا الجواب، وعزوه إلى أمور عدَّة منها أن آباءهم لا يفهمون عقليتهم الجديدة، ولم يحسنوا بناء المجتمع الحاضر، ولم يجدوا علاجاً ماتعاً للحروب واستغلال الغني للفقير، والقويِّ للضعف.
ومن هذه الأبعاد الحديثة فقد نجم عنها تفكك أفراد الأسرة الواحدة. فإن الحياة العصرية تفصل بين الآباء والأبناء فالكل مشغول في أمور الحياة التي تهمه مباشرة فالصلة بين أفراد الأسرة الواحدة تكون شبه معدومة، ليس فيها تعاطف وتعاون وتكاتف وحب كما كان الأمر في الزمن الماضي والمرء - مهما ابتعد عن الطريق السّوي لا يستطيع أن يعيش منفرداً، ولا بد من ثلَّة ينتظم معها.