الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تعد كفالة الأيتام من أبواب الخير العظيمة، ومن أعظم القيم الإنسانية التي يعززها الدين الإسلامي الحنيف الذي يشجع على رعايتهم ودعمهم وكفالتهم.
ولاشك أن كفالة الأيتام لا تعني الجوانب المادية فقط بل تمتد إلى القيام بشؤون اليتيم من التربية والتعليم والتوجيه والنصح والإرشاد، والقيام بما يحتاج إليه من حاجات تتعلق بحياته الشخصية من مأكل ومشرب وملبس وعلاج.
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين في العلوم للشرعية والاجتماعية والمهتمين بالشأن الاجتماعي والأسري، ليتحدثوا حول كيفية ترسيخ المنهج الإسلامي النبيل في المجتمعات في رعاية الأيتام، والآثار المرجوة على الفرد والمجتمع.. فماذا قالوا؟
تجارب واقعية
بداية تحدث الشيخ منصور بن صالح بن سليمان العُمري الخبير في رعاية الأيتام المدير العام لمؤسسة الأيتام سابقاً: يكفي للدلالة على عظم كفالة اليتيم قول النبي -صلّى الله عليه وسلم- في حق يتيم عرض أمامه: (من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة)، وقوله في موضع آخر: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
وقد عايشت من التجارب الواقعية في كفالة اليتيم ما يبعث على العجب، فمما رأيت إبان عملي مديراً عاماً لرعاية الأيتام في فترة مضت سبعة عشر شاهداً لأسر لم ترزق الإنجاب، وبعد كفالتهم أيتاماً رزقهم الله الذرية بل إن من كفل يتيمين رزق بتوأم، ورأيت أسراً متوسطة الحال أو دون ذلك فتح الله عليهم أبواب الرزق بعد كفالتهم للأيتام، وحتى بركة تزويج البنات شاهدتها في أسر كانت تعاني من تأخر زيجات بناتهم، ففتح الله لهم باب التيسير.
ومما يحفز على الكفالة أنها سبب لمغفرة الذنوب كما قال تعالى في سورة النور: (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) في حق الصديق -رضي الله عنه- ومكفوله مسطح، ومما أود التنويه إليه لأهميته كما عايشته واقعاً أن البعض يعتقد أن دوره في كفالة اليتيم في حال طفولته فقط ثم يتوقف عن رعايته، وهذا لا يتسق ومقاصد الشريعة في كفالة اليتيم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : (إن الشاب لتنبت لحيته وهو ضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ من صالح ما يأخذ منه الناس فقد ذهب عنه اليتم، ولعل في واقعة الصديق مع مسطح ما يدل على ذلك، وكما أن للكافل فضلاً على اليتيم في الدنيا، فإن لليتيم على كافله فضل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يجعله الله سبباً للبركة في الرزق والولد والصحة، وفي الآخرة يكون سببا لدخول الجنة ورفقة المصطفى فيها، كما أنه يجلب الطمأنينة للنفوس وراحة البال.
وقد سألت سماحة الوالد العلامة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- أن البعض يتحرج من كفالة اليتيم خشية الحاجة إلى تأديبه في بعض الحالات بما يكسر خاطره بالمنع من شيء أو إلزامه بشيء فقال -رحمه الله- : من أخلص نيته واجتهد في رعايته كما يعامل أطفاله من صلبه فهو مأجور في كل تأديب يؤدب اليتيم.
تنمية وتطوير
يقول الشيخ سليمان بن عبدالله الماجد قاضي الاستئناف: إن كفالة اليتيم تسهم في بناء مجتمع مترابط متماسك، يستثمر كل طاقات المجتمع.
واليتيم كغيره يحتاج إلى رعاية وإحاطة، وتنمية وتطوير، ويد حانية وقلب عطوف؛ حتى لا يتسلل إليه دعاة الشر فيستدرجونه نحو الانحراف، وينزلق شيئا فشيئاً نحو الإجرام، مشيراً إلى أن كفالة اليتيم في الإسلام لا تنحصر في الجوانب المادية كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن، بل يصل إلى تربية اليتيم وتعليمه وتدريب وتهيئته لسوق العمل، وإحاطته بالعناية والرعاية من جميع الجوانب: الدينية والاجتماعية، والنفسية والاقتصادية، والعلمية، والفكرية؛ لتنشئة جيلٍ محبٍ لدينه ووطنه ومجتمعه.
جمعيات متخصصة
يضيف الشيخ سليمان الماجد قائلاً: ولترسيخ هذا المنهج الإسلامي الشامل في العناية باليتيم وكفالته ودعمه لدى المجتمعات، يمكن ذلك من خلال:
* إنشاء الجمعيات المتخصصة بشؤون الأيتام ومن أهمها جمعية لرعاية اليتيم نفسياً واجتماعياً.
* إنشاء مركز لدراسات الأيتام أو قسم في جمعية الأيتام ثم يستقل فيما بعد، والحاجة إلى استقلال المركز مهمة ليمارس دوراً حيادياً شاملاً.
* تعزيز دور الصناديق العائلية لرعاية ودعم أيتام الأسرة.
ولكفالة اليتيم ورعايته والعناية به آثار على المجتمع؛ منها:
- استقرار المجتمع؛ فصلاح المجتمع من صلاح أفراده.
- التماسك والتلاحم بين أفراد المجتمع؛ من خلال تعزيز الاندماج الاجتماعي بين الأيتام والمجتمع.
- تطوير مهارات الأفراد؛ وذلك من خلال البرامج المهنية والدورات التطويرية.
- تعزيز التنمية الاقتصادية والمجتمعية المستدامة.
قربة عظيمة
ويؤكد الداعية الشيخ عبدالعزيز بن صالح الكنهل: أن السعي في خدمة الأيتام وكفالتهم قربة عظيمة عند الله سبحانه ينتج عنها ثواب عظيم جداً في الآخرة وكفالتهم ليست مقصورة على الجانب المادي كما يتبادر للبعض، وإنما هي في الحقيقة تشمل جميع جوانب حياة اليتيم، وأهمها:
أولاً: التربية الصالحة له ليكون لبنة نافعة ينفع نفسه وأمته وتشمل تعليمه.
ثانياً: الشفقة والرحمة به وحسن التلطف له لتعويضه عن فقد حنان أبويه، وقد ذم الله الذين يقسون على الأيتام في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
ثالثاً: وتشمل تغذيته غذاء سليماً.
رابعاً: وتشمل الإنفاق عليه بسد حاجاته المادية حتى لا يضطر لسؤال الناس أو يصيبه الهم والغم أو يضطر لسلوك طريق غير سوي للإنفاق على نفسه. وقد دلت أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على فضيلة هذا العمل الجليل منها:
1 - قول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، (215) سورة البقرة.
2 - وأعظم حديث ورد في فضل كفالة اليتيم والإحسان إليه الحديث التالي عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما)، رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قال ابن بطال: حقٌ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك].
3 - والحديث التالي يدل على فضيلة السعي على حاجة الأرامل والمساكين والأيتام من المساكين، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ)، متفق عليه.
خامساً: ولنعلم جميعاً أن العمل الصالح من النوافل المتعدي نفعها للغير أعظم أجراً من العمل الصالح القاصر على النفس؛ لأن العمل المتعدي النفع فيه خير لعامله بكسب الثواب الجزيل وللمعمول له بتفريج كربته مالياً أو معنوياً وكذلك تفريج كرب فاعل الخير في الدنيا والآخرة.
ويدل على ذلك الحديث التالي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من فرَّج عن أخيه المؤمن كُربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله عزَّ وجلّ في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، رواه مسلم.
وينبغي للمؤمن بعد أن قرأ هذه الأدلة من الكتاب والسنة أن يفقه معانيها ويعمل بما دعت إليه محتسباً الأجر في ذلك مخلصاً لله سبحانه؛ لينال الثواب العظيم الوارد في قوله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، (114) سورة النساء.