حِكايةٌ قد تقتل صاحبها؛ تكرر علينا مسألة نحوية عُقِدَ لها مناظرةٌ جمعت بين إمامين عظيمين، عالم النحو وأسطورته سيبويه «بصري»، وشيخ القراءات وعلوم اللغة الكسائي «كوفي»، والعجيب كثرة الروايات في أحداث هذه المناظرة، بل وصل الأمر فيها إلى الادِّعاء، والتَّكذيب، والاتِّهام للأئمة النحو آنذاك، والمسألة وإن كانت كغيرها من المسائل النحوية التي يكون فيها اختلاف في الآراء إلا أنها اتخذت منحى آخر سعى لها أنصار العالِمين، دعونا نذكر المسألة التي حُكيت في ذلك الوقت، ونتأمل معناها، والقول فيها.
[المسألة الزنبورية](1)
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال: «كنت أظن أن العقرب أشد لَسْعَةً من الزُّنْبُورِ فإذا هو إياها».
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال: «فإذا هو إياها»، ويجب أن يقال: «فإذا هو هي».
أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه، وذلك أنه لما قدم سيبويه على البرامكة حضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل تسألني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إيَّاهَا؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسألة من هذا النحو، نحو: «خرجت فإذا عبد الله القائم، والقائم» فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع ذلك سيبويه، ولم يجز فيه النصب، فقال له يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب؛ ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرضين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم؛ فيحضرون ويسألون، فقال له يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم، فدخلوا، وفيهم أبو فَقْعَس، وأبو زياد، وأبو الجراح، وأبو ثَرْوَان، فسُئِلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فوافقوا الكسائي، وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع، وأقبل الكسائي على يحيى: وقال أصلح الله الوزير! إنه وَفَدَ عليك من بلده مؤملًا، فإن رأيت ألا ترده خائبًا، فأمل له بعشرة آلاف درهم، فخرج وتوجه نحو فارس، وأقام هناك، ولم يعد إلى البصرة.
فوجه الدليل من هذه الحكاية أن العرب وافقت الكسائي، وتكلمت بمذهبنا، وقد حكى أبو زيد الأنصاري عن العرب: «قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها» مثل مذهبنا؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما من جهة القياس فقالوا: إنما قلنا ذلك لأن «إذا» إذا كانت للمفاجأة كانت ظرف مكان، والظرف يرفع ما بعده، وتعمل في الخبر عمل وَجَدْتُ؛ لأنها بمعنى وجدت.
وقد قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: إن «هو» في قولهم «فإذا هو إياها» عماد، ونصبت «إذا» لأنها بمعنى وَجَدْتُ على ما قدمناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز إلا الرفع لأن «هو» مرفوع بالابتداء، ولا بد للمبتدأ من خبر، وليس ههنا ما يصلح أن يكون خبرا عنه، إلا ما وقع الخلاف فيه، فوجب أن يكون مرفوعا، ولا يجوز أن يكون منصوبا بوجه ما؛ فوجب أن يقال «فإذا هو هي» فهو: راجع إلى الزنبور لأنه مذكر، وهي: راجع إلى العقرب لأنه مؤنث.(2)
بعد انتهاء هذه المناظرة ادَّعى المُدَّعون أن سيبويه مات هما وغما بسبب انكساره، واتَّهم المُتَّهمون أن الكسائي رشا العرب ليقفوا معه، وما ذلك إلا ضعفا في الأنفس ونقلا للشائعات، فالإمامان أجل وأرفع من أن يتهما بهذه الأباطيل، فسيبويه عالم نهل من العربية علماً غزيراً، وهو من أنجب تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو المرجع الأساسي لعلماء العربية، فالرجل كان يمثل إمام مدرسة البصرة في النحو، ولا أظنه أن ينكسر من مسألة، وهو يؤمن أن هناك اختلافا في مسائل كثيرة، والكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو، وسابع القراء السبعة، ويعد المؤسس الحقيقي للمدرسة الكوفية في النحو؛ هذا فضلا عن أن الكسائي إمام ثِقَة ثَبْت أثنى عليه جمهرة من العلماء، كيونس والشافعي وابن معين وأبي منصور الأزهري، وأثنى عليه أئمة الكوفيين كالفراء وابن الأنباري.
إن طالب العلم ينبغي أن يعلم الضوابط التي تضبط تفكيرَه وترجيحَه، وبعد ذلك لا عليه أن يرجح ما يشاء؛ لأن إهمال الضوابط قد يؤدي بكبار العلماء -فضلا عن أمثالنا من صغار طلبة العلم- إلى نتائج شنيعة.
———————
(1)- انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام «ص88-92» فقد فصل المسألة وخرج المثال موضع الخلاف تخريجا دقيقا.
(2)- انظر كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين لأبي بركات الأنباري ج2/ ص 576-577.
** **
- محمد عثمان الخنين