تتحرّى قراءتنا في كتاب - نقد ثقافي أم نقد أدبي، د. عبدالله الغذامي، د. عبدالنبي اصطيف- لجدل نقدي بين ناقدين أحدهما يمثِّل النقد الثقافي والآخر يمثِّل النقد الأدبي، وقد استعرضنا في كتابنا الذي يصدر قريبا ًتحت عنوان (إشكاليّة المنهج: الثقافيّ/الأدبيّ نقد الخطاب ونقد النصّ) على نحو تفصيلي الآراء الجوهرية لكلٍّ منهما من أجل الكشف عن طبيعة مستقبل النقد في المرحلة القادمة، فالنقد الثقافي الذي يحمل لواءه الدكتور عبدالله الغذامي يوجّه نقداً كبيراً لما آل إليه النقد الأدبي وقد اشتبك مع العناصر الجمالية والبلاغية لم ينتبه إلى تلك الأنساق المضمرة التي تخفي خلفها كوارث ثقافية، حاول الدكتور الغذامي الإشارة إليها وتحليلها بما يكشف عن وصول النقد الأدبي إلى طريق مسدود، وقد استندت دعاوى الدكتور الغذامي في هذا السياق إلى منطق علمي ومعرفي وأكاديمي واضح ومقنع في كثير من مفاصله.
أما الدكتور عبدالنبي اصطيف وقد وُضع في موضع الدفاع عن النقد الأدبي فإنه لم يتمكَّن من الدفاع عن هذا النقد بمستوى دفاع الدكتور الغذامي عن نموذجه، بل راح يستعرض مقدمات ومقولات ومبادئ ومقاربات خاصة بالنقد الأدبي في مراحل مختلفة، ثمّ وجه اتهامات لا تستند إلى دليل معرفي حاولت تقويض النقد الثقافي ولم تنجح، لأن حجة الدكتور الغذامي كانت هي الأقوى ولم يرتقِ الدكتور اصطيف إلى مستوى هذه المواجهة التي كانت تميل بكل مجرياتها وطبقاتها لصالح الدكتور الغذامي.
ما يهمّنا في هذا المجال هو إلى أي مدى يمكن أن يقوم منهج نقدي بإلغاء منهج سابق عليه؟ وهل أن فكرة الإلغاء صحيحة ومناسبة؟ وهل سبق لها أن نجحت في ميدان تلاحق المناهج النقدية المعروفة في النقد الأدبي من المناهج السياقية ثم البنيوية النصية وما بعدها وصولاً إلى نظريات القراءة والتلقي؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة لا بد أن تكون بالنفي قطعاً، فما زالت كثير من أدوات المناهج السياقية تعمل لدى بعض النقاد في مفاصل معينة من الدراسات النقدية، وما زالت المناهج النقدية النصية بكل مسمياتها تهيمن على الدرس النقدي الحديث، وبحسب طبيعة النقاد الذين يتصدّون للممارسة النقدية وطبيعة المدرسة النقدية التي ينتمي إليها كل ناقد، وبحسب طبيعة شخصيته النقدية وإعداده المعرفي وذائقته وثقافيته وموهبته ورؤيته، ولا مجال للإلغاء مطلقاً، فالمعرفة تستمر دائماً، وما يتضاءل منها وتنتهي مهمته يختفي بشكل طبيعي، وما يحمل منها القدرة على الاستمرار يبقى ويستمر على الرغم من كل شيء، وهذه هي سنة الحياة بشكل عام وتشكل كل جوانب الحياة بلا استثناء.
النقد الأدبي بمناهجه المختلفة والمتنوعة هو فضاء نقدي له تاريخ طويل في الثقافة الغربية والعربية، وأنجز منجزات هائلة على أكثر من صعيد نظري وإجرائي لا تسمح له بالزوال أبداً مهما كانت المبررات، ونرى أنه يحمل في داخل مناهجه الكثير مما يجعله حاضراً في الدرس النقدي الحديث بشكل مثمر وأصيل، لكنه بالتأكيد يحتاج دائماً إلى تطوير أدواته وتجديدها بما يناسب التطور الهائل الحاصل في مختلف شؤون الحياة العلمية والمعرفية، ولا بد له أن يكون جديراً بالعيش وسط هذه التطورات المذهلة التي لا يمكن أن تسمح للأدوات التقليدية في التعامل مع النصوص والظواهر أن تستمر.
النقد الثقافي الذي قدّم أطروحته ونظريته الناقد الدكتور عبد الله الغذامي فيه كثير من المنطلقات المهمة التي تحتاج إلى تأمل ونظر عميقين، ويمكن التعاطي والتفاعل معه بصورة ديمقراطية تسهم في تطور الفكر النقدي العام، ووجوده يسهم حتماً في تحريض مناهج النقد الأدبي المختلفة على تطوير عدّتها النقدية دائماً، فضلاً عمَّا يمكن أن تنجزه من مكاسب نقدية ذات طبيعة مختلفة ومغايرة، ترصد وتعاين وتقرأ النصوص والظواهر الأدبية بعين نقدية لا تكتفي بالظاهر الجمالي؛ بل تدخل إلى أعماق النصوص للكشف عن بواطنها وأنساقها الداخلية المضمرة.
وإذن فالنقد الأدبي - بمناهجه كلها وبحسب طبيعة المدارس المنهجية النقدية المنتمية لهذا النقد- هو باق، وينتشر على مساحة أدبية وأكاديمية تطال المجتمع الأدبي والنقدي العربي من المحيط إلى الخليج، ويهيمن على مقدرات العمل النقدي بصورة كبيرة جداً لا يمكن التقليل من شأنها أو إلغاء دورها، والمناهج النقدية التي تعمل تحت مظلة «النقد الأدبي» هي مناهج متعددة ومتطورة في بعض مفاصلها، وتؤدي دوراً مهماً في الدرس النقدي والأكاديمي على مختلف المستويات، وبوسعها أن تستمر بالبقاء والتأثير والكشف والاكتشاف طالما أن لديها القدرة على تطوير أدواتها وتكييفها بما يتلاءم مع العصر.
والنقد الثقافي هو الآخر نقد مهم أثبت جدارته في مناسبات كثيرة، وصار له مريدون كثر يؤمنون بجدواه وقيمته وقدرته على إنجاز ما لم يستطع النقد الأدبي إنجازه، في السبيل إلى قراءة ثانية مغايرة تتجاوز الأطر التقليدية التي اشتغل عليها النقد الأدبي، ولا بأس في ذلك حين نتلمّس حقيقة هذا الإنجاز على أرض الواقع، ولا شك في أن الدكتور الغذامي قدّم هذا المنهج ودافع عنه بطريقة صحيحة ومقنعة، فضلا عن كثير من الرؤى المهمة التي تحتاج فيما بعد إلى تطبيقات وإجراءات كبيرة من لدن نقاد ثقافيين مهمّين، نتمكّن فيها من الإقرار بجدية هذا النقد وأهميته في الحضور النقدي بجانب النقد الأدبي.
ونحسب أن قضية تفوّق منهج على آخر وترجيحه عليه لا يمكن أن تكون مناسبة وناجحة إلا من خلال ما ينجزه كل منهج على أرض الواقع النقدي، وهو ما يجعلنا نؤمن في نهاية مقاربتنا لهذا الجدل بين نظريتين نقديتين أن التجاور والتفاعل والتأثير والتأثر يشكل الرؤية الأنجح في هذا المقام، ولا مجال لإلغاء أحدهما وتحجيمه ونفيه خارج دائرة النقد كي يبقى الآخر وحده بلا منافس، وسيبقى كل منهما عاملاً وفاعلاً في سبيله على نحو منفتح على الآخر؛ وربما بانتظار مناهج أخرى جديدة هي في طريقها إلينا.
** **
أ.د.رائدة العامري - العراق