حديثي إليكم عن تأثير ما كُشف من قوانين طبيعية (فيزيائية) متعلقاً بطبيعة المادة وسنن الكون، على المذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وعندما أتحدث عن أثر هذه الكشوف وتأثيرها فإنما أتحدث عن أثر ذلك في الغرب، وسبب قصر الحديث على هذه البقعة من أهل هذا الكوكب هو أنها التربة التي نبتت فيها هذه القوانين وتأثرت بها وإن كان هذا الأثر لم ينحصر -فيما بعد- في مجاله الذاتي بل امتد إلى سواه بعامل الحركة والانتشار، فالحديث إذن يمثل نوعاً من السفر إلى خارج الحدود، إذ إنه يتحدث عن عطاء لسنا الواهبين له، وعن قوم لسنا منهم بل لسنا على وفاق دائم معهم. والسفر خارج الحدود أمر يجد فيه بعضنا معرفة وارتياداً فيه متعة السياحة والكشف عن مجهول، وقد يراه آخرون نوعاً من العناء، فيه مشقة الرحلة وعناء السفر وخوف المجهول، وما حملني على الحديث عن ذلك والتعريف به هو أنه ينطوي على جانب من المعرفة، أحسب أنه لا يجوز أن نجهله أو نتجاهله. ذلك أنه صفحات من نشاط العقل البشري وعنفوانه إذا لم نكن نحن الكاتبين لهذه الصفحات فلا أقل من أن نكون قارئين لها واقفين على محتواها. سيكون الحديث عن أثر بعض هذه القوانين التي بدا فيها هذا الأثر أكثر وضوحاً ومباشرة، وهي قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وقانونه في الجاذبية، وكذا القانون الثاني من قوانين الحركة الحرارية (Thermo Dynamics) ثم ما ألقاه علم آلية الكم على هذه القوانين -في دلالتها الفلسفية- من أثر.
قوانين نيوتن تمثل نقلة في الفكر العلمي والفلسفي، بحيث أرّخ لها بمرحلة ما قلب نيوتن ومرحلة ما بعد نيوتن، كما صار للقانون الثاني من قوانين الحركة الحرارية أثره في أغلب جوانب الجياة، ثم جاء بعد ذلك علم آلية الكم فغير كثيراً من تصورنا لطبيعة الكون وسننه.
وأحسب أنه لفهم هذا الأثر لابد من الإلمام بالمناخ العقلي والفكري في الغرب قبل ظهور هذه القوانين، أي ما كان عليه الغرب قبل القرن السابع عشر وهو ما عرف بالقرون المظلمة التي انتهت بعصر التنوير الذي ظهرت فيه هذه القوانين.
المناخ الفكري في الغرب قبل القرن السابع عشر
صاغ الفكر الغربي وصبغه بصبغته منذ نشأة الديانة المسيحية أمران هما الديانة المسيحية والفلسفة الإغريقية، وكان هذان المصدران النبع الذي يستقي منه المفكرون ورجال الكنيسة آراءهم ومن ثم يبنون على هذه الآراء سلوكهم ومواقفهم، لقد كانا -المسيحية والفلسفة الإغريقية- الزاد الذي غذى عقولهم وأفكارهم أثر فيها وتأثر بها. وفي هذا الصدد ينقل (جون راندل John Randal) في كتابه القيم (صياغة العقل الحديث) عن (فان روتردام أرامس V.R.Aramus) قوله: (إنني أستطيع أن أكف نفسي عن القول أن القديس سقراط يصلي لي، إن فلسفتهم -يعني اليونانيين- تكمن في الصوف وليس المحاجة، حياة وليست مجادلة، إلهام وليست سوطا..)(1) وعندما انتدبت الكنيسة توماس الإكويني للدر على مدرسة الرشديين في الغرب وهم جماعة تأثروا بشروح أبي الوليد بن رشد لكتب أرسطو ورأت الكنيسة في اتباع هذه المدرسة ما يمثل خطراً عليها لم يجرؤ توماس على نسبة الخطأ إلى أرسطو بل عزا ذلك إلى خطأ ابن رشد في فهم مقاصد أرسطو.
العهد الجديد بأناجيله الأربعة لم يأت بشيء عن فيزياء الكون وكيفية تكوينه، ولم يكن في العهد القديم سوى ما جاء في الإصحاح الأول والثاني والثالث من سفر التكوين، وهو أمر لا يجوز الركون إليه أو الأخذ به، لذلك تبنت الكنيسية ما جاء في فيزياء أفلاطون وأرسطو عن مركزية الأرض تبنت الكنيسة ما جاء في فيزياء أفلاطون وأرسطو عن مركزية الأرض للكون ودوران الأفلاك حولها، وصار هذا التصور جزءاً أساسياً في معتقد الكنيسة الكاثوليكية تؤمن به وتعلمه وتدعو إليه.
هكذا بقيت الديان المسيحية -كما حورها بولس وتبناها المجمع المسكوني الأول الذي دعا إليه القيصر في القرن الرابع الميلادي- والفلسفة اليونانية ومنها فيزياء الكون الدعامتين اللتين يستند إليهما الفكر والوجدان الديني والتصور الفلسفي لدى الغرب.وقد لفت تلك العصور والعصور التالية لها فيما عرف بالقرون المظلمة سحابة ثقيلة من سيطرة الكنيسة سيطرة مطلقة جعلتها وحدها المالكة لحق التشريع والتفسير والتوجيه، وأنها وحدها المخولة بفهم كلمة الله وإبلاغها للشعب، واتخذت موقفاً يتشبث بكل قديم ويفزع من كل جديد، ويرفض أن يوضع كل موروث من الأفكار والمعتقدات موضع البحث والفكر والمساءلة من قِبل أي فرج أو جماعة خارج الكنيسة، وصار رجال الكنيسة يقودون حملة تدعو إلى تحقير العقل والفزع من الركون إليه أو الرجوع له في أي أمر يتعلق بما تتبناه الكنيسة في التصور والاعتقاد، وقد انتشرت مواقف وأصوات الداعين إلى ذلك الحارسين له محاربين الخروج عليه أو المساس بمكانته، وقد بلغ هذا الأمر حداً جعل رجلا مثل مونتانييه (Miechle de Montiagne) في مكانته الفكرية والدينية والاجتماعية يقول في مرافعته ضد العقل ورفع مكانة الكنيسة وتشديد قبضتها ما يلي:
(يُخيل إليَّ أن خير وسيلة لإذلال ذلك المسلك الجنوني تكمن في الحط من الآنفة البشرية ودوسها بالأقدام، وفي انتزاع سلاح العقل من أيديهم، وإرغامهم على طأطأة الرأس والتمرغ في التراب.. هناك أناس يتجرأون على إنكار حق الكنيسة الكاثوليكية في الانفراد بحث شرح النصوص المقدسة وتوجيه الرعية)، ويضيف: (إنها غطرسة، أما الخضوع التام لسلطان التوجه الكنسي أو الاستغناء عنه بالمرة، وليس من شأننا تحديد نسبة الطاعة المتوجبة علينا)(2).
عاش مونتانييه في القرن السادس عشر ولكن بقي هذا الموقف الغريب مسيطراً على نفوس وعقول أفراد يعتبرون من الأعلام البارزين في عصرهم، فرجل مثل (بليز باسكال Plaese Pascal) المولود عام 1932م وهو أحد قمم البلاغة في اللغة الفرنسية وواحد من أبرز ذوي الفكر آنذاك يقول: (لا يسعني أن أكف نفسي عن هزة الفرح التي تتملكني فيما أرى العقل المتكبر يُهان لدى هذا المؤلف -يعني مونتانييه- وفيها أرى ثورة الإنسان الدامية ضد الإنسان..)(3).
وإذا كان ما تقدم يحتل مناخ الفكر الديني الذي يسيطر على تلك الحقيقة، فإن المناخ الذي يسيطر على الجانب السياسي والاجتماعي من حياة المجتمعات في الغرب لا يختلف عما تقدم كثيراً، فـ(توماس هوبرز Thomas Hobbes) وهو أحد رجال الفكر السياسي والاجتماعي في بريطانيا يقرر في كتابه (Le Viathan) الذي ظهر في أوساط القرن السابع عشر (أن الإنسان ليس اجتماعياً بطبعه، بل هو كائن متوحش شرير حافل بالنقائص تتحكم فيه أنانيته ولا يحكمه دافع أخلاقي، إنه يحتاج إلى السوط لكي يروض، والحياة مجال للطبش والاستيلاء لمن يستطيع، والمخادعة والكذب لمن يضعف، لذلك فلابد من وجود قوة رادعة قادرة على البطش لكي تكبح الطبع المتوحش في الإنسان، هذه القوة هي الدولة التي يجب أن يكون الخضوع لها بلا حدود)(4).
أصوات ودوافع مختلفة لمدرسة واحدة هدفها الاستئثار بالسيطرة والتسلط عن طريق تكبيل الإنسان وتجريده من أثمن ما وهبه خالقه وهو العقل وذلك الوهج الفطري الذي لا يستكين للأغلال، وهذا أمر لا يجوز تجاوزه دون إطالة الوقوف عنده لتأمل دلالته على ذلك الاتجاه الذي يشل العقل لأنه يرى فيه خطراً على أي نوع من التسلط أو موروث من العادات مهما كانت جسامة الظلم في التسلط أو الفجاجة في الموروث.
على هذه الصورة ظل الفكر الغربي قروناً طويلة أصّله وغذاه حماسة القديس أوغسطين المولود في الجزائر ونماه ورواه عمل كثيرين من أمثال توماس الإكويني وألبرت الكبير، وقد بقي هذا الجو الخانق هو الهواء الذي يتنفسه الناس لا يهب عليهم سواه حتى القرن السادس عشر، حيث هبت رياح التغيير، وكان من أوائل المؤثرات في هذا الاتجاه فلك كوبر نبرقوس وما كتبه فرانسيس بيكون، على أنه بقي شيء من السحابة لم ينقشع في القرن الثامن عشر كما رأينا ذلك لدى جان جاك روسو في بعض ما كتب(5).
(1) JOHN RANDAL. The making of modern mind P. 134.
(2) أندريه كرسون: تيارات الفكر الفلسفي، ترجمة نهاد رضا - منشورات عويدات 1982 صفحة 27 .
(3) آندريه كرسون صفة 89 .
(4) يكاد يكون هذا النص شرحاً سياسياً لقول الشاعر العربي:
إذا لم تكن ذئباً على الأرض أطلساً
كثير الأذى بالت عليك الثعالب
أو قول حكيم العرب المتنبي:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روّى رمحه غير راحم
(5) جاء ذلك في بحث كتبه روسو استجابة لمسابقة دعت إليها مؤسسة ديجون الفرنسية للإجابة على سؤال هو: هل تقدم العلوم والفنون أدى لنفع البشرية أم كان عليها وبالا، فكان جواب روسو: (أن هذا التقدم وبال عليها وليس نفعاً لها).
* يتبع
* الرياض
محاضرة ألقيت في نادي الأحساء الأدبي وخصّ بها
الدكتور المبارك (الثقافية)