تتجاور الحكايات التي تحفزها أسئلة يعقوب في الحاضر و جزئيات حكاية حبه في الماضي مع قصص تنتمي للعالم الثالث لهذا النص، الا وهو عالم الخيال الذي تمثله مؤلفات البطل، فهو قد أنجز روايات ثلاثة صدرت قبل مرضه وهي: سنوات الاعصار، والقطرة الأولى، والنوم مع السراب، إضافة إلى خرافة طفولية يختلقها خلال النص. ولا يكتفي السارد بذكر عناوين تلك الروايات، بل يقدم للشخوص من حوله تلخيصات لمواضيعها، ثم يعود يعقوب ليقرأ لنفسه صفحات من أولها أومنتصفها أوآخرها، وعندما تتحول أحلامه إلى هلوسات مع اقتراب موته تتداخل أحداث الروايات مع النص الأساس ويدخل يعقوب عوالم خياله الروائي ليتقمص أدوار أبطالها. وتبقى لرواية النوم مع السراب سمة خاصة، فهي الوحيدة التي ولجت عالم الماضي ذلك أن روضة كانت قد قرأتها قبل لقائها بيعقوب، ثم ظلت تشير إليها في مواقع لاحقة من علاقتهما.

يظهر إذاً أن البناء الداخلي لـ (حكاية حب) يعتمد بشكل كبيرعلى مقاطع فسيفساء متعددة المصادر، فبعضها تجود به الذاكرة ويظهر على شكل أحلام وكوابيس، وبعضها يضخه الخيال على شكل روايات كتبها البطل، إلى جوار مقاطع في حاضر النص تحكيها الشخصيات الثانوية عن نفسها تجاري بها الدفق القصصي للبطل. لكن النص يجنح أيضاً إلى تركيب عدة خطوط سردية تتماثل في المضمون مع الحكاية الأساسية توازيها وتتضافر معها لتزيد من وضوح المعادلة الرئيسية التي تشكل نسق الحكاية.

وبينما تقبع قصيدة (الخريف) لإبراهيم ناجي على عتبة النص لتعمل كتوطئة، فإن قصيدة الأمير بدر بن عبد المحسن الغنائية، (زمان الصمت)، تتغلغل في النص كبنية عضوية متحركة تملك سلطة التنقل والاختفاء ثم معاودة الظهور في الفضاء النصي الماضوي. تظهر القصيدة في البداية كإقتباس في ورقة علمية ويتم التوثيق لها توثيقاً سليماً في قاع الصفحة:(1) هذا المقطع من أغنية زمان الصمت من غناء الفنان طلال مداح وتلحينه، وكلمات الأمير بدر بن عبد المحسن. وكل المقاطع التي سترد في أجزاء لاحقة من الأغنية نفسها. 51). لكن القصيدة ترجع بقوة لتتناسج مع قصة الحب بين البطل وروضة، فكلاهما يدندن أبياتها ويستخدمها للتعبير عن مشاعره 66، ثم تفتح أبيات القصيده مجال الرومانسية المجنحة بينهما في حوار يقوم على معانيها، فيسألها عن كيفية كتابة اسمه على الصوت وجدار الوقت ولون السما والوادي والميلاد والموت 78، وتعود هي في موقع متأخر من النص لتعرض عليه نفس تلك الأسئلة 114 . وتأتي أكبر مشاركة للقصيدة في نهاية النص فتكون أغنية الوداع التي تعلن الرحيل واستحالة أي لقاء مستقبلي بينهما. كذلك فإن آخر بيت في القصيدة: (وترحل صرختي تذبل في وادي لا صدى يوصل) يهب النص آخر كلماته، فصداها يتردد في (وديان الصمت) التي هوى إليها يعقوب لحظة وفاته 120 . هذه القصيدة تحمل في طياتها بذرة سردية، فهي تحكي عن حب ورحيل وموت، لذا فهي تقوم بمهمة إسنادية إستعارية تشد بها أزر الحكاية المشابهة التي يدور حولها النص.

يصنع غازي القصيبي من قصيدة (زمان الصمت) وغيرها من الأبنية القصصية الثانوية متوازيات حكائية تتداخل مع البنية الكبرى بشكل شديد التعقيد يمنحها وظيفة إبدالية ويسخرها لتعمل كملحق تفسيري لقصته المحورية. وإن كانت هذه القصيد قد شغلت مساحة واسعة من النص، فإن غيرها من البنيات قد لا يتعدى ذكرها فقرة واحدة أو جملة أو حتى كلمة، لكنها تأتي في خضم التداعي الحر كإشارات واضحة لا يمكن تجاوزها. ومن هذه الإشارات السريعة تعريف الحب الذي تقدمه هيلين ليعقوب رداً على سؤاله عن ماهية الحب. تقول هيلين: (الحب يعني أنك لست في حاجة إلى الاعتذار أبداً)، فيرد يعقوب اقتباسها إلى مصدره الحقيقي قائلاً: (أخذت هذه الجملة من) قصة حب). 39 وذكر هذه القصة الشهيرة Love Story لصاحبها إيريك سيجال Eric Segal لابد وأن يستدعي ثيمة الحب الذي ينتهي بالموت الناتج عن المرض، فتشتبك بذلك مع حكاية الحب المسرودة وتقدم نسقاً دلالياً مضمراً.

وتأتي الإشارة إلى الموت أيضاً من خلال استعارة يعقوب قرب نهاية النص لعبارة (أغنية البجعة) 119، جملة واحدة تحيل إلى وحدة سردية أسطورية مفادها أن البجعة البكماء

Cygnus olor لا تصدر صوتاً طيلة حياتها، لكنها حين تستشرف الموت، وعند النزع الأخير تشدو بأغنية وحيدة جميلة أشبه ما تكون بالنواح الحزين. وهذا الاعتقاد الشائع والمغلوط راح يتردد في الكثير من الأعمال الأدبية الغربية على مدى العصور بدء من الفيلسوف سقراط الذي شبه نفسه حين موته ببجعة تغني فرحاً بموتها، ومروراً بأوفيد وتشوسر وشكسبير وتينيسون وغيرهم، ولكن يبقى أشهرها تلك القصيدة بعنوان: (البجعة الفضية The Silver Swan) التي كتبها أورلاندو جيبونز 1612 Orlando Gibbo ns، وقال فيها:

البجعة الفضية، عاشت بلا أنغام

وحينما آن الرحيل، تحرر الصوت

الذي كان حبيس الحنجرة

مالت بصدرها على الشاطئ العشبي

وغنت.. غنت لأول مرة

صدحت بآخر أغنية!

وبعدها صمتت. وداعاً لأفراحي

ويا موتي اقترب واغلق عيوني.. (ترجمتي)

ويستعمل المصطلح (تغريدة البجعة) في اللغة الانجليزية ليعبر عن آخر مقطع في مسرحية أو آخر ظهور درامي للبطل، بل وآخر عمل يقدمه كاتب أو فنان قبل مماته، وبما أنه يعي أن عمله هو إبداعه الأخير فإنه يضاعف جهوده ليعطي عطاءً مكثفاً يأتي كخبطة نهائية أو إعلان صارخ لانتهاء مشوار حياته. يثير تعبير (تغريدة البجعة) إذاً التشاؤم في نهاية الحكاية فهو يعمل كنذير بالموت المقبل على يعقوب، لذا فإن ذكره لا يأتي عشوائياً في النص، بل إنه يتحول إلى مجاز أو كناية تحدد ملامح موقفاً مشابهاً.

خلال التحاور مع العاملين والعاملات في المصح يتم التطرق لحكايات مضمونها معادلة حب الشابة في خريف العمر والعجز والموت سواء بالتفصيل أم بالتلميح. حين تراقب جانيت يعقوب وهو يتأمل دخان سيجارته، يسترجع هو منظر روضة وهي تدخن ثم (يتذكر قصة قصيرة كتبها يوسف إدريس عن طالبة جامعية تدخن والعميد ينظر إليها من نافذة مكتبه. تصف القصة التيار الصاعق الذي هز الفتاة المراهقة والرجل الكهل عندما التقت عيناهما)24. يشير القصيبي في هذه الفقرة إلى القصة القصيرة (حالة تلبس) التي تتميز بسمات دلالية مشتركة ومنفردة تُعيّن إمكانياتها الاستعارية المجازية، فهي تتعرض لانجذابة الرجل الكبير في السن لامرأة شابة جذابة تفقده وقاره وتضخ في جسمه رحيق الحياة، وهاهو العميد في قصة إدريس يضغط على زر الجرس لينادي الساعي (لكن أصبعه لاتزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه..)، ارتعاش لن يتيح له الواقع معايشته مرة أخرى. وتجد هذه العلاقة المستغربة بين الكهل والشابة أصداء كثيرة تتردد في جوانب النص من خلال حكايات فرعية كاملة بذاتها تقارب وتشاكل حكاية حب يعقوب وروضة من جهة واحدة أو من جهات كثيرة في عملية تعالق وظيفي وتكويني للنص. وربما يسترعي إسم البطل نفسه انتباه القارئ لما يحمله من إيحاءات دلالية، فهو اسم النبي يعقوب عليه السلام، والنص يشدد على هذا التشابك ليس فقط بتسمية ابن البطل يوسف، كاسم النبي يوسف إبن النبي يعقوب، بل إن الأسقف جورج مالوني يقوم بالربط بين البطل والاسم التوراتي جيكوب موضحاً أنه جاء بعد أخيه التوأم مباشرة ممسكاً بعقبه ولهذا سمي يعقوب. 41 وتظهر تيمة التعلق بصغيرة السن في قصة زواج النبي يعقوب من ابنة خاله الكبرى لَيْئة رغم أنه كان راغباً في أختها الصغرى راحيل، والتي ظل يطمح للاقتران بها حتى تزوجها وأنجب منها يوسف وبينيامين. كذلك فإنه يُروى - في أخبار بني إسرائيل - أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان مؤاخياً ملك الموت، فطلب منه أن يخبره إذا دنا أجله وألا يقبض روحه إلا بعد أن يرسل له نذراً من رسولين أو ثلاثة. وحين انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتاه ملك الموت، فعتب عليه قدومه لقبض روحه قبل أن يرسل نذيره، فأخبره ملك الموت أنه قد فعل، فنذره قد تمثلت في بياض شعره بعد سواده، وفي ضعف بدنه بعد قوته، وفي انحناء ظهره بعد استقامته. هذا التماس بين اليعقوبين أمام الموت الشاخص يقود إلى مشهد الاحتضار، لكن الفرق بينهما يظهر فيما يشغل كل منهما ويؤرقه وهو يعاني سكرات الموت، فالنبي يعقوب يسأل أبنائه إذ حضر الموت: (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي) (البقرة 133)، أما يعقوب العريان فحين تداهمه كارثة الموت نجده يهلوس في لحظات الاحتضار باسم محبوبته موصياً ابنه يوسف الاعتناء بالطفلة زينب.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244