تنزع الرواية, في أحيان كثيرة, إلى إثارة أسئلة جديدة, عن مواضيع ليست جديدة. وتزداد وجاهة هذا المنحى, في حالة المزج بين عالَمين, أو أفقين, أو مجالين متباعدين في الظاهر, مترابطين في العمق. وإذا احتاج الأمر إلى دليل؛ يمكن التساؤل مثلا: ما الذي يجمع بين (السبحونة الشعبية) بخفتها الغائرة, و(الأسفار القديمة) برزانتها الظاهرة؟
الجواب السهل: رواية (شرق الوادي). والجواب الصعب: تحاول الرواية ذاتها تقديمه, وغاية ما يتيسر هنا مجرد الإشارة إليه, وليس استقصاء امتداداته المعقدة, لا لأنها فائضة عن الحاجة, بل لعلها لازالت زائدة على راهنية التلقي العام.
ولأن الأسفار القديمة لا تحتاج إلى مزيد من الإبانة, لشهرتها وذيوعها, فإن السبحونة ربما تحتاج إلى توضيح مطول, خاصة لمن لا يعرفونها؛ فهي مُفرد (سباحين), ويُعَرِّفُها عبد الكريم الجهيمان بأنها (الحكايات التي يتداولها الأطفال وأشباه الأطفال.. وهي عادة لا تكون إلا في الليل حين يخيم الظلام فيحجب أبصار الأطفال, ولا يجدون مجالا لنشاطهم إلا في سرد الحكايات التي تغرق في الخيال والخزعبلات, وتصور ألوانا من الحوادث والتصرفات تارة على ألسنة الجان.. وتارة على ألسنة السحرة والمشعوذين, وطورا على ألسنة قوم مغفلين وهكذا.. وقد سميت سباحين لأنها تفتتح باسم الله, ونسبت لليل لأنها عادة تكون فيه, ولأن الخيال يسبح في الليل أكثر من النهار).
غابت السبحونة بسبب ظهور التلفزيون تحديدا, وما يقدم فيه من مسلسلات وأفلام, وبالذات أفلام الكرتون الموجهة للأطفال, وعادت هنا من خلال الرواية, ما يحيل إلى ما سبق أن قاله جاكوبسون: (إن الأشكال الفلكلورية المحافظة على بقائها, هي تلك التي لها بالنسبة لجماعة بشرية ما, طبيعة وظيفية.. ولكن ما أن يفقد شكل ما هذه الوظيفة, حتى نراه يختفي من الفلكلور, عندئذ يحتفظ بوجوده الكامن في إنتاج أدبي ما).
يتصف الدكتور تركي الحمد بالعقلانية والواقعية, ولم يذهب بعيدا عن هذا الوصف, حتى وهو يعتمد الفنتازيا في مواضع كثيرة من روايته, فالواقع ذاته يقرر أن (الأساطير والأوهام والتخيلات تؤثر أحيانا في حياة البشر أكثر مما تؤثر الحقائق. ويتزايد ذلك كلما اتجهنا شرقا. شرق الغيبيات والماورائيات). كما تقول الرواية. ولهذا فإن البديل المفضل, في هذه الحالة, عدم تجاوز الاعتراف بالواقع كما هو, مع التركيز على إعلاء شأن الإشراقي والصوفي والاستشرافي, في مقابل اليقيني الغيبي المُغلق.
المقابلة الأخرى بين دواعي القلق الوجودي, والتصميم على الهدف الإنساني العام, مما يبرز حالة من التوازن, إلا أنها حالة تظل محكومة بجدليتها المستمرة, وفيها من الحركة والحيوية أكثر مما فيها من الثبات, ومن داخل تلك الحركة تنبثق الكتابة: (كي تكون حروفي سببا لحركة لاعب آخر, كما كانت حروف جدي سببا لحركتي). وعلى مستوى الشكل العام صيغت الرواية على هيئة السبحونة, بما تمثله من وضوح نمط سابق في ذهن الكاتب, لتؤطر الحدث العام, وتقوم بلملمة شتات تلك الجدلية العتيدة, بوقائعها وتهويماتها, على حد سواء. واستخدام هذا التكنيك له حمولاته الدلالية الخاصة, ويفتح النص على سلسلة أخرى من الدلالات المنبثقة من تعريف السبحونة ذاتها.
أمضى الحفيد الراوي (جابر بن عبد العزيز بن جابر السدرة) أربعين عاما من عمره يبحث عن (سميح ): (الوهم الحقيقي والحقيقة الوهم). ثم قرر أن يروي حكايته بحثا عن نوع من خلاص فردي, ربما يمليه اليأس من حدوث خلاص جمعي: (حياتي يمكن إيجازها بعبارة واحدة: البحث عن الحقيقة, وربما وهم البحث عن الحقيقة.. كل ما أمني النفس به اليوم لحظة من لحظات إشراق المتصوفة تعتريني فجأة؛ فتنقلب الحيرة إلى يقين, ولو كان يقينا زائفا.. ففي اليقين لا فرق بين الزائف والأصيل, فكله ثبات في النفس, وراحة في عموم الذات). وما دام الأمر بمجمله جزءا من حقائق الواقع, فلا بد أنه جزء من الهوية, وبالتالي فإن السارد يتسق مع ثقافته التراثية, ولا يعنيه أمر التفريق بين الحقيقة والوهم في حالة (سميح): (أليست الرؤيا الصادقة جزءا من هكذا جزء من النبوة). في معاكسة لوجهة نظر الثقافة الغربية في الرواية, وتمثلها شخصية الأمريكية (إيثيل), التي تُردد: (أنتم الشرقيون متعلقون بالسحر, والأجواء السحرية, جمل يطير, وبساط... ترغبون امتلاك كل شئ ببساطة, من دون عمل just like that الله لا يساعد من لا يساعدون أنفسهم).
مثل هذه التفصيلة, والتفاصيل الأخرى الكثيرة في الرواية, أتاحها اعتماد الأسفار في عناوين وافتتاحيات الفصول, مع رسم السبحونة إطارا حكائيا عاما من جهة, ومحركا للحكي من جهة أخرى: (وهنا هاك الواحد, والواحد الله سبحانه, وإلى هنا هاك الخب..). وكأن العقل الجم عي في العموم, نتيجة عدم وعيه بحقائق الأمور, في ظلام مثل ظلام الليل, وأقرب إلى عهد طفولة العقل البشري, منه إلى زمن الرشد الإنساني, ولهذا فهو يُسَبْحِنْ عليه, ثم ينقل العملية بمجملها إلى أفق آخر, ليعود المحكي حكيا من جديد, ثم محكيا مرة أخرى.
وإذا كانت السبحونة تناسب ليل الأطفال القصير, فربما ناسبت الأسفار ليل الإنسان الوجودي الطويل؛ فالأمر يتكرر, حسب مقولة العودة الدائمة للتاريخ. و(شرق الوادي) أساسا تُعتبر رواية تاريخية, من جهة المضمون, إضافة إلى تصنيفها ضمن روايات الواقعية السحرية, من جهة البناء الفني؛ لأن شخصية (سميح), تلك الشخصية المحلية المُلهِمة, ذات الملامح القريبة من شخصيات الواقعية السحرية في روايات أمريكا اللاتينية. (وربما تحسن الإشارة عرضا إلى أن رواية (فكرة) لأحمد السباعي, الصادرة عام 1948م, ورد فيها ملامح من هذا القبيل). ويُبَرِّر السارد في رواية (شرق الوادي) سبب اعتماد هذا الأسلوب, بأنه يحتاج إلى الحلم بصفته مصدرا آخر للأمان النفسي, الذي لا توفره المعلومات المتاحة: (ما بعد الموت يرعبني حقا. لا تسيئوا الظن بي فلست جبانا ولا خائفا من الموت, ولا مما بعد الموت, فمن أخذ بيدنا في الأولى لا بد أنه آخذ بيدنا في الآخرة. ولكنني أشعر بالوحشة من المجهول.. أريد أن أعرف شيئا لا تعطينيه معلومات الإنسان القاصرة).
انقسمت الرواية داخل إطار السبحونة إلى خمسة أقسام, سميت أسفارا؛ يتوسطها سفر التائهين, ما قبله تمهيد له: سفر الآفلين, وسفر الأولين, وما بعده نتيجة له: سفر اللاحقين, وسفر الحنين, مع إعادة لترتيب الدلالة من خلال كسر كرونولوجية الزمن. ومجئ السبحونة بخفتها المفترضة, لتؤطر الأسفار برصانتها المفترضة, يعكس سخرية خاصة, تتجه إلى عبثية الحياة, وعبثية منتوجاتها اليقينية من جهة, وأن هذه العبثية - من جهة أخرى - ليس حتما أن تكون حائلا دون السعي الدائم إلى تحقيق الحلم الإنساني, بما هو منفذ الخلاص الوحيد في هذه المعادلة. يؤكد هذا يأس الرواية من الغيبي اليقيني المغلق, واحتفائها بالحلم والصوفي والإشراقي, وما يمثله (سميح) وغرانيقه البيضاء, من خلق بيئة كتابية تُمهد لاطِّراح الأسئلة الفاسدة, وتطوير أسئلة أخرى, أكثرت الرواية من عرضها: (نصدق بالجن والعفاريت ولا نصدق بالغرانيق؟. ونصدق بالأولياء والدراويش ولا نصدق بسميح؟. وصدقنا الكاذبين كثيرا, أفلا نصدق الصادقين؟).
حسب (سفر التكوين/ العهد القديم) فإن الخليقة تحولت من الهجرة والترحال الدائم, المتسق مع مبدأ الحياة ذاتها بصفتها رحلة, إلى الاستقرار, وكانت تلك بداية الحدث القاسي الذي مهد لقيام الحضارة, ولكنه ضرب حرية الإنسان وانطلاقه في الصميم, وظل الحلم بالحرية أمل الإنسانية الكبير, الذي تحتم عليها أن تظل في انتظاره على الدوام, وهذه المسألة بقيت وجودا كامنا في لا وعي البشر. تستعيد الرواية هذا الملمح من خلال شخصية (عبد الرحمن المتوكل), الجد السادس لسميح الذاهل: (كان لا يستقر في مكان, رغم أنه من قبيلة تركت البداوة واستقرت. وكان لديه ذلول يسميه (الأبيرق) وناقة يسميها (المأمورة) عليهما كل حاجياته البسيطة. يغادر البلد فجأة ثم لا يلبث أن يعود فجأة كما غاب. وعندما يسألونه لماذا لا يستقر مثل أهله وقومه كان يقول: أنا بن السماء وين ما صبت ماها, وطلعت الأرض خيرها حطيت رأسي ومديت رجلي, وش لي بالفلاحة والتجارة والتعب والسماء مريحتني).
تركي الحمد مهموم بالتاريخ, وبفلسفة التاريخ, واستخدامه لحوادث التاريخ, والمقولات التاريخية, واستعادة أساليب كتابتها, قامت بدور واضح في كسر نسقية التاريخ الظاهرية, من خلال تخييله, و(حين تمارس الرواية النقد الفكري العميق فهي تفعل ذلك من منطلق تخييلي لا يسعى لتقديم الحلول والتفسيرات والحقائق. بل إلى المساءلة والتشكيك. وملاحظة المفارقات والتناقضات والإشكاليات الكامنة وراء النسقية الظاهرة للأفكار والأشياء). كما سبق أن قال ميلان كونديرا, من منطلق أن الرواية, بآفاقها الواسعة, وممكناتها الفنية والتعبيرية المفتوحة, لها قدرة على استكشاف الوجود الكامن في الواقع وفي تاريخ التجربة البشرية, التي قد لا تصل إليه, أنظمة التأويل أو التفسير الأخرى.