بدأ الكاتب المصري وحيد الطويلة حياته الأدبية بنشر مجموعتين قصصيتين لاقتا اهتماماً قبل أن يكتب روايته الأولى (ألعاب الهوى) هذه الرواية الناضحة بالسخري ة وبخفة الدم المصرية المعروفة. ومناخ هذه الرواية هو القرية التي أصبحت الغائب الأكبر عن الروايات المصرية في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت المدينة المناخ الأثير رغم أنّ معظم كتّاب الرواية ينحدرون من القرى القريبة أو البعيدة عن القاهرة.
ويعود وحيد الطويلة ليؤكد لنا بروايته الجديدة (أحمر خفيف) بأنّ في القرية معيناً لا ينضب من الأحداث ومن الشخصيات النادرة التي يمنحها الطويلة اهتماماً كبيراً حتى في قصصه القصيرة. ويشتغل على كل شخصية بأناة ليأخذ منها أحسن ما فيها ويبعدها عن النمطية (التكرار) فالفرادة عنده مسألة مهمة.
بدأ وحيد الطويلة روايته هذه عندما كان في تونس وكان يحمل أوراقه في كيس بلاستيك مزيّن يعود لواحد من مخازن تونس المعروفة .. ويأتي بالشيشة وفنجان القهوة، ويستسلم لهدوء مريح، وأثناء هذا يتصيّد الجُمل بل والكلمات. وقد دار بمخطوطته في المقاهي التي يحب الجلوس فيها، ولذا أدرج أسماء هذه المقاهي في آخر الكتاب وأكملها في قطر، حيث يقيم الآن مع قرينته في إجازة مفتوحة من عمله في أحد مكاتب الجامعة العربية بتونس.
حمل معه مخطوطة روايته إلى قطر عندما غادر إليها، وغالباً ما يجري الحديث عنها في مكالماتنا الهاتفية، إذ إنني أحب إبداع هذا الكاتب وأراه جديراً بأن تأخذ أعماله مكانها الذي يناسب أهميتها.
ويبدو لي أنّ صديقنا الطويلة معني بلذة الكتابة، بممارستها بعيداً عن الأصداء، وإن كان لا بد من هذا، فإنّ له مجموعة من الأصدقاء الذين يحرص على سماع آرائهم, ولذا أوصل نسخ أصدقائه في تونس بالبريد السريع، نسخ كاتب هذه السطور والروائي محمد علي اليوسفي والشاعر هادي دانيال والشاعر آدم فتحي مثلاً.
في روايته (أحمر خفيف) هناك شخصية مركزية تتمثل في (محروس) الذي يتعرّض لإطلاقات غدر فينقل إلى المستشفى البسيط ويظل ممدداً هناك ما بين الحياة والموت. وقد جهّز أهله طقوس موته وتشييعه ورابطوا حول المستشفى رفقة التابوت الذي سيضعون جثمانه فيه.
لكن محروس لم يمت، ظل هكذا، وحار فيه حتى الأطباء .. حتى أنهم فكروا أن يرفعوا عنه الأجهزة لتتوقف أنفاسه .. لكن نبض الحياة لم يخمد في عروق محروس الذي يتوعّد عبد المقصود الذي أطلق النار عليه غدراً، وكان يركب حمارته ولا يحمل بيده أي سلاح فهو كبير القوم والأمان يحيط به أينما ذهب. وكأنّ عبد المقصود هذا أراد أن يذله قبل أن يطلق النار بأن طلب منه حتى يعفو عنه أن يقول: (أنا مرة) .. أي امرأة. ولكن محروساً لم يرض بهذا وهو الكبير، ورفض طلب رجل وضيع مثل عبد المقصود.
ويبقى محروس ممدداً في المستشفى حتى الأخير تاركاً مخيلة الكاتب تستعرض تركيبة البشر الآخرين الذين صاغوا الأحداث وكلهم من أقرباء محروس.
انصاف ابنته تظل عند قدميه متشبثة به، تناديه لأن ينهض من رقدته الطويلة، مذكّرة إيّاه بأنها حذّرته من الخروج، أحسّت بأنّ شيئاً سيحصل له لو خرج.
وهناك غزلان الجميلة التي ما أن ترمّلت حتى بدأ الرجال يتنافسون على الاقتران بها وصاروا يعدّون أيام حزنها على زوجها الذي اقترنت به بعد حب ورزقت منه بولد سمّته نشأت على اسم مدرِّس فلسطيني كان يدرِّس في القرية.
ولكن (أبو العشم) شقيق محروس هو الذي يفوز بها. وأبو العشم هذا هو والد عزّت الذي لا همّ له إلاّ ملاحقة النساء، والادعاء بأنه مرجع طبي يبيع الأدوية على الناس البسطاء زارعاً مفردات إنكليزية في حديثه ليبهر السامعين بشخصه.
ومن الشخصيات الطريفة في الرواية الفناجيلي الخائف من الموت لذا يرتدي الكفن ويمسك بيده (النبوت) ويظل يراقب مجيء ملاك الموت في المقبرة ليقضي عليه.
هناك في الرواية شخصية فرج الزنجي في المآتم وبمواجهته عزيزة التي تمتهن مهنة ندب الموتى أيضاً. ورغم أنّ حلم فرج الكبير هو الزواج بامرأة بيضاء إلاّ أنه لا يرضى بالعمشة التي جمعته بها المهنة والوحدة فهي أصغر من أحلامه المحلقة بكثير. أما ناصر فهو أيضاً من الشخصيات المتفردة في الهواية والذي يعلق عزت على اسمه: (لو عبد الناصر كان يعرف أن واحد زي ده هيشيل اسمه كان طلع من التربة، غيّر اسمه ورجع ).
ناصر هذا تلبّس شخصية عمه محروس. ولكن الفارق أنه زير نساء لا حرمة لشيء عنده.
ومن أجمل فصول الرواية الفصل الذي برع فيه الكاتب حول هجوم ناصر على فتاة شابة اسمها عواطف .. ورغم أنّ محاولة الاغتصاب قد تمّت أمام الأنظار، إلا أنّ أحداً لم يتقدم لإنقاذها خوفاً من بطش ناصر، والوحيد الذي دافع عنها ابن أختها الطفل الذي لم يتوان ناصر عن طعنه بالسكين في كبده فأرداه قتيلاً .. وهنا فقط انتفض الحاضرون وهجموا على ناصر حتى مات بين أيديهم وتحت أقدامهم.
هذه الرواية تؤكد ما سبق أن ذكرناه أنّ القرى الغائبة عن الرواية العربية الجديدة تشكِّل مادة ثرية وأرضاً عذراء لم تُسبر كاملة. وأنّ ما كان يقال بأنّ الرواية هي فن المدينة ليس صحيحاً تماماً، بل هي فن القرية كذلك، لأنّ النسبة الكبيرة من الروائيين العرب ينحدرون من القرى، وحتى الذين انحدروا من المدن فإنّ هذه المدن ما هي إلا قرى كبيرة ما دامت تسيرها القوانين الاجتماعية الصارمة نفسها، إلاّ في حالات قليلة ولبعض المدن وليس كلها ..
هناك ملاحظة سجّلناها هي أنّ القارئ غير الملم باللهجة المصرية سوف تفوته أشياء كثيرة لأنّ وحيد الطويلة فيها وفي (ألعاب الهوى) قبلها قد استعان بالدارجة في الحوار، ولكن هذه الدارجة تسرّبت إلى المتن كذلك. وهي مسألة تحتاج إلى مراجعة وفق تقديري إذ إنّ السامع الذي تصله اللهجة المصرية نتيجة لشيوعها قد لا تصل إليه مكتوبة بالسهولة نفسها.
(أحمر خفيف) رواية شفّافة، وشخصياتها ذات حيوية نادرة.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244
تونس
صدرت الرواية من منشورات الدار - القاهرة 2008