الثقافية - عبدالمحسن الحقيل:
أكاديمية نشطت في مجال البحث والنشر.. تكتب النقد بلغة واضحة وتحرص على بيان قناعاتها بأسلوب يسير يمكّن المتابع من الوصول إليها دون عناء.. تخصصت في المسرح الشعري استجابةً لرغبة داخلية في كشف أسراره.. تكتب عن الشعر وعن السرد وتضع علامات مضيئة هنا وهناك.. نصحبها اليوم في حوار حول كتابها؛ علنا نصل معها إلى شيء من قناعاتها ونلتقي مع رؤيتها الفنية.. إنها الدكتورة نوال بنت ناصر السويلم الحاصلة على دكتوراه الفلسفة في الآداب تخصص الأدب الحديث عام 1425هـ 2004م وأستاذ مساعد بقسم اللغة العربية في جامعة الرياض للبنات وعضو جمعية المسرحيين السعوديين والمشرف العام على موقع مجلة المشهد الأدبي الذي قامت بتأسيسه منفردة قبل عامين.
البداية مع العنوان.. ألا ترين أنه طويل جداً؟ هل هو منهج اتبعته؟
- حرصت أن يكون الكتاب مبيناً لمضمونه بدقة، وكان ممكناً حذف السطر الأخير الذي يحصر زمان ومكان الدراسة (في مصر من عام 1961م إلى عام 1990م) شأن كثير من الكتب التي تؤثر الإفصاح عن الزمكان في مقدمة الكتاب، لكني آثرت التضحية بالمظهر الجمالي للغلاف والاحتفاظ به طويلاً كما أُقر أكاديمياً، وأحسب هذا أكثر صدقاً مع القارئ الذي قد يضلله العنوان الموجز فيوهمه بسعة الموضوع أو يعوزه لتصفح الكتاب بحثاً عن حدوده ومجاله، ولأن الكتاب يقرأ من عنوانه - كما يقولون - أتى طويلاً يتجاوب مع هذه المقولة.
اختيارك للحوار في المسرح رسالة أكاديمية يبدو شاقاً وغريباً.. ما الذي أغراك به؟
- المسرح فن مهمل من قبل الدارسين، وكونه مهملاً برغم فنيته العالية وثرائه بقضايا فكرية وإنسانية حفزني للاهتمام به والتخصص الدقيق في أدبه، ووجدت فيه مجالاً خصباً للبحث والدرس والتأمل، ومحيطاً أتحرك فيه باطمئنان من قلق تناوله من قبل الباحثين في فترة إعداده، شدني في المسرح الشعري لغته الشعرية إذ وصلتني بعالم الشعر.. الفن الأثير لدي وبناؤه الدرامي الذي مدّ لي جسراً للقراءة في النقد السردي؛ فكان الحوار موضوعاً يلبي رغبتي في التواصل مع الفنون الأدبية شعراً وسرداً.
هو إصدارك الأول الذي يحمل تبعة التعريف بك.. أليس كبيراً جداً مقارنة بكونه الإصدار الأول؟
- أتمنى أن يكون كبيراً فعلاً بقيمته العلمية، هو يحمل تبعة التعريف - كما تفضلت - وهو خلاصة جهد ورحلة مضنية في القراءة والبحث والتحصيل وأتى كبيراً لكونه في الأصل أطروحة علمية.
الكتاب في أصله رسالة دكتوراه فما الذي قمت به لتخليصه من صبغة الرسالة الأكاديمية؟
- حاولت قدر الإمكان الاحتفاظ بصبغته الأكاديمية بدءاً من العنوان، وتخففت من الهوامش التي تعد تفصيلاً يمكن الاستغناء عنه كالترجمة للأعلام والتعريف ببعض المصطلحات النقدية وتفسير المفردات وغيرها مما لا تشكل على القارئ المتخصص. ومن طبيعة البحوث ثراؤها بالنماذج الشعرية بغرض الاستدلال على الظاهرة، وإزاء هذا وقفت يتجاذبني رأيان: إبقاؤها كلها أو حذف بعضها! وقنعت بضرورة التخفف من بعض الشواهد التي لا تتضمن تحليلاً طويلاً عنها والإحالة إليها في الهامش حسب ما تقتضيه الحاجة. ومع هذا لم يختلف الكتاب كثيراً عن الرسالة سوى في نواح شكلية لا تمس الجوهر كثيراً.
ختمت الكتاب ببحث عن الموسيقى موافقة الرسالة الأكاديمية.. ألم يكن الأولى حذف هذا الفصل ليخرج من إطاره الأكاديمي؟
- لا، الأولى إبقاؤه، وقد تلقيت نصيحة من أستاذين جليلين بإمكانية حذفه تيسيراً لأمر طباعته لكني لم أستسغ أن أحلله من ثوبه الأكاديمي ففصل الموسيقى في الدراسات الأدبية يأتي في نهاية المطاف وهذا لا يعني أنه ذيل! وأرى في حذفه بتراً لموضوع مهم، وتتضاعف هذه الأهمية هنا لكون الموضوع عن الحوار أي ظاهرة فنية لغوية والموسيقى جزء من لغة الحوار لا يمكن إغفاله. أبقيت هذا الفصل لأن موسيقى المسرح لم تناقش كثيراً، ولعل القارئ أن يجد فيه إضاءة لبعض القضايا الموسيقية. وحذفت منه مبحثاً عروضياً حول الزحافات والعلل لا يهم القارئ.
بعد هذه الدراسة الطويلة والعميقة برأيك: من هو أفضل من كتب مسرحاً شعرياً؟ ولمَ؟
- باستقراء المسرح الشعري في مصر يظل صلاح عبدالصبور نقطة مضيئة في تاريخ المسرح الشعري؛ فقد خاض صلاح تجربة الكتابة للمسرح بعد رحلة ناضجة في عالم القصيدة الغنائية؛ فالحس الدرامي في شعره هيأ له النجاح في المسرح، واستطاع أن يطرح قضايا فكرية وإنسانية وسياسية، وبوعي عميق استفاد من الاتجاهات المسرحية الحديثة، وقدم صيغاً مسرحية مستمدة من التراث ومن الأدب الغربي؛ فجاء مسرحه منفتحاً على كل التجارب وكاشفاً عن قيم وأفكار متنوعة، وعن بصمة خاصة وسمت نتاجه بوحدة في الرؤية والموقف تجاه القضايا التي تناولها مع تنوع في طرائق الأداء وأساليب التعبير. ولم تحدث بعده نقلة فنية يمكن أن نعدها مرحلة تالية لصلاح عبدالصبور؛ فالملامح الفنية لمعظم المسرحيات بعده شديدة التباين في مستواها وقيمتها الفنية وهي في مجملها تمثل مرحلة، لكنها ليست نقلة متطورة في الارتقاء بالمسرح الشعري كالتي أحدثها صلاح عبدالصبور في الستينيات. ومن تلاه يدين له في التأثر بلغته ومضامينه؛ فالتناص مع مسرحه يشكل ظاهرة لافتة في المسرح الشعري في مصر، ويؤكد تسيّده هذا الفن.
التصفيق من قبل المشاهد لا يعبر عن عمق العمل ولا جودته.. لكن أليس المشاهد هو المستهدف بالعمل؟ وتصفيقه أليس معياراً للقبول؟
- هذه المقولة في الأصل مفادة من د. عبدالقادر القط ينتقد فيها النبرة الخطابية، واستحسنت هذه الالتفاتة الذكية فنقلتها. نعم المتلقي هو المستهدف بالعمل وتصفيقه تعبير حي عن قبوله واستحسانه لكنه ليس معياراً صادقاً عن جودة العمل أو عمقه، قس على هذا تهافت الجماهير على متابعة مسلسل درامي هابط فهو يكشف عن توجه وثقافة الذائقة لا رقي العمل، ويفترض أن يكون المسرح خطاباً للعقل لا للعاطفة، وحين يلهب المؤلف أكف جمهوره بالتصفيق فهذا يعني أنه حرك عواطفهم فقط ولم يقنع عقولهم والاستجابة العاطفية أثرها وقتي لا يدوم طويلاً؛ إذ ينتهي بنهاية العرض بينما خطاب العقل يحفز الجمهور على التفكير والتأمل ويستميله المؤلف إلى رؤيته عن قناعة.
تحدثت عن السرد في العمل المسرحي: ما المعيار لقبوله لديك في العمل المسرحي؟
- التداخل الأجناسي بين الفنون بات ظاهرة مشروعة، والسرد في المسرح أسلوب فني له وظيفته الدرامية في بناء الحبكة وهو حيلة ذكية تبيحها الأعراف المسرحية: كرواية الأحداث المتعذر تمثيلها أو تلخيص الفترات الزمنية الطويلة أو التمهيد لأحداث سابقة على زمن المسرحية ورؤية السرد في المسرح تختلف بحسب المدارس الفنية المختلفة وفلسفتها في فهمه وتوظيفه وفق متطلباتها ودرجة إفادة المؤلف من القص والسرد بذكاء على المسرح؛ فالسرد مثلاً لم ينجح في مسرح عبدالرحمن الشرقاوي لأنه لم يجعل منه أداة طيعة تخضع لضرورة تقتضيه بل أخضع مسرحياته له!. وتجنباً للإطالة: مهما قيل عن مشروعية التداخل والاقتراض في السمات الفنية بين الأجناس يبقى لكل جنس أدبي سمته الخاصة به وعناصره التي تشكل ملامحه وهويته.
افترضت في الشاعر المسرحي أن يتخلى عن الغنائية.. ألا تقبل عندما تندمج الشخصية في التعبير عن ذاتها مع خضوعها لشروط المسرح؟
- الغنائية هي انفصال عن الموقف المسرحي لبث مشاعر ذاتية بحيث تتوقف الشخصية عن التواصل مع زميلاتها في الموقف وتنطلق للبوح شعراً بقصيدة غنائية يمكن اجتزاؤها من المسرحية وحذفها دون أن يتأثر بناؤها. وتشكل اللغة الشعرية في المسرح عامل إغراء لدى كثير من الشعراء الذين يستجيبون لها مندفعين لكتابة قصيدة غنائية لا حواراً درامياً، وهذا أكبر عيب في لغة الحوار المسرحي ولم يستطع الشعراء الفكاك منه والخلوص إلى حوار درامي وكل أخذ من عباءة شوقي الغنائية بطرف. ليس كل حديث فردي بالضرورة أن يكون غنائياً ترفضه تقاليد المسرح، وعندما تندمج الشخصية في التعبير عن ذاتها مع خضوعها لشروط المسرح كما تفضلتم فهي هنا تعيش صراعاً داخلياً يعرف بالمناجاة وهي مقبولة بل مطلوبة لإذكاء فتيل الصراع وتعزيز حيرة البطل تجاه الأحداث.
ماذا عن كثرة الإصدارات اليوم.. هل هي ظاهرة صحية؟
- حركة النشر النشطة مؤشر جيد على الحراك الثقافي وانتعاش الحياة الأدبية، بيد أنها لا تبعث على التفاؤل إذا قرأناها من الداخل! قبل خمسين عاماً أو يزيد كان الإبداع السعودي ضرورياً لإثبات وجوده على الساحة ومواكبته للحركة الشعرية في العالم العربي.. نحن الآن تجاوزنا مرحلة إثبات الذات، ولم نعد نحتاج إلى أن نقول للعالم هنا أدب سعودي اقرؤوه جواباً لمن سأل أيوجد أدب سعودي؟! لذا فإن أدباء الإصدار الأول يكتبون تاريخاً فنياً لأدبنا، والآخر يقرؤنا الآن بآليات نقدية جديدة ورؤى عصرية يقيم فيها مشهدنا الأدبي على خريطة الإبداع، وتعجل النشر يؤسس مشهداً ضعيفاً لا ينافس في حلبة التطور والنضج؛ لأن معظم هذه الإبداعات تمخضت عن مواهب واعدة تحتاج إلى صقل وتجويد وتأن قبل مغامرة النشر.
يبقى الشعر هو الفن الأقل حظاً في الإبداعات الجديدة.. برأيك لمَ؟
- لأن الشعر (صعب وطويل سلمه)! وأمام هذه المقولة يصمد القليل، أضف إلى هذا إغراء السرد والاستجابة لزمن الرواية بزعم أفول دولة الشعر خلق حالة ركود لدى المبدع من أنه يكتب لنفسه في وسط يعلو فيه ضجيج الروائيين وتطبيل النقاد لهم.
كلمة أخيرة لقارئي كتابك ومتابعيك؟
- كل الشكر والتقدير لمن منح حرفي شيئاً من وقته وأهداني رأيه. ولـ(الجزيرة) الغراء امتنان بلا حدود لهذه المساحة.