للدكتور معجب الزهراني ثلاثة بحوث مهمة تناولت قضية الخطاب التراثي حول المرأة لدى ثلاثة من الأعلام هم ابن حزم والغزالي وابن رشد. ولقد رأى الزهراني أن هذه النماذج الثلاثة تطرح ثلاثة أنواع من الخطاب حول المرأة: خطاب المحبة عند ابن حزم كما جسده كتابه (طوق الحمامة)، وخطاب التوحش عند الغزالي كما جسده باب بعنوان (ذكر سير النساء وعاداتهن) من كتابه (التبر المسبوك في نصيحة الملوك)، وخطاب العقلانية عند ابن رشد كما جسدته فقرة موجزة في سياق تلخيصه لكتاب (السياسة) لأفلاطون.
والحق أقول ابتداءً: إن أهم ما استحوذ على صدارة اهتمام قراءتي هنا أن الدكتور معجب يضعنا في سياق نقلة مهمة في الدراسات العربية حول خطاب المرأة. فبعد أن كان ثمة اتجاهات تقوم على فكرة إعادة النظر في اللغة وقوانينها لكشف ما سُمي باستراتيجياتها الذكورية ينتقل الزهراني بالمقاربة من (اللغة) إلى (الخطاب) بما يعني ضمنياً أن اللغة بذاتها ليست مذكرة أو مؤنثة، وإنما الخطاب هو الذي يستخدمها ذكورياً أو أنوثياً. فالإيديولوجيا تكمن في الخطاب وليس في اللغة.
أما الأمر الآخر الذي يسترعي الانتباه فهو أن الزهراني، مواجَهاً بسؤال (المرأة) في سياق لحظته التاريخية، يذهب إلى قراءة إجابات السؤال ذاته في سياق لحظات تاريخية في الماضي المعرفي العربي. ولأن لحظته تنقسم أمام هذا السؤال بين طرفي خطابين، وبينهما درجات خطابية متنوعة ومتأرجحة: خطاب التحريز وخطاب التحرير، ولأنه؛ أي الزهراني - قبل هذه القراءة وأثناءها - منحاز إلى الخطاب الثاني، فقد جاء المحرك لفاعلية قراءته الحالية محركاً مزدوجاً يقوم على آليتي إقصاء المضاد لخطابه، وإعلاء ما يوحي بالاندراج في سلك المطابقة. ولا بد من القول هنا إن من طبيعة هاتين الآليتين الانزلاقَ إلى قراءة إسقاطية رغبوية. وهذا ما قد يُدخل الخطابَ في ثقوب لعل أهمها ثقب وهم التطابق، ومن ثم استنطاق المقروء بما ليس فيه. وهذا ما تبدى بجلاء في قراءة (طوق الحمامة) بصفة خاصة. كذلك فإن من ثقوب تلك الرغبة المزدوجة استمدادها القوة والوثوقية من تشييد وهم التضاد بين رؤيات قد لا يكون ثمة اختلاف جذري فيما بينها على المستوى المرجعي الإبستمولوجي، وإنما على مستوى درجة المغايرة الأسلوبية النسبية في مجريات الواقع الذاتي والاجتماعي والسياسي.
ما يقدمه الزهراني إذن هو خطاب الحاضر في حال مساءلته لخطابات معرفية سابقة كان لها دورها وما يزال في تشكيل رؤى هذا الحاضر وممارساته بخصوص خطاب المرأة. ومن ثم فقد كانت هناك قنوات تحت أرض خطاب الزهراني، وعلى سطوحه، لمرور الإيديولوجي واختراقه - في بعض الأحيان - أعرافَ المعرفي. وسأحاول -بإيجاز شديد- أن أقف عند بعض تجليات هذا الاختراق الذي أفضى إلى تأويلات ومقاربات ربما تحتاج - في تصوري - إلى مراجعة معرفية أعتقد أن الدكتور معجب مؤهل لها بجدارة.
ولنتفق ابتداء على أن خطاب المرأة لدى أي مفكر من هؤلاء الثلاثة المقروئين لا يمكن عزله عن بنية النظام الفكري الذي يقيم التشكيلة الخطابية بانتظامها التصوري والتعبيري في مدونة كل شخصية منهم وفي ممارساتهم الواقعية. وربما يمكن هنا تقرير أن الثلاثة المفكرين يصدرون جميعاً - بالمنطوق المعلن - عن مرجعية إسلامية. ومن ثم إذا كانت القراءة التي أنتجها الزهراني قد أوصلته إلى ثلاثة خطابات متغايرة حول موضوع المرأة فإن السؤال هنا يكون: كيف تنتج المرجعية الواحدة تغايرات خطابية قد تصل إلى حد التعارض؟ وفي الإجابة فإننا نأخذ - بالطبع - بمبدأ تغاير أهداف التأويل تبعاً لتغاير الأهداف والمصالح القارة في الواقع الذاتي والخارجي المحيط والمنتج لهذا التأويل. ومن ثم فإن ما يلازم صحة هذا الجواب هو الضرورة التي كان لا بد أن تملي على قراءة الدكتور معجب البحث عن العلل العميقة التي تحاول الإجابة عن السؤال: لماذا جاء الخطاب عن المرأة (متوحشاً) تارة، و(محباً) تارة أخرى، و(عقلانياً) تارة ثالثة؟
أتصور أن الكشف الحفري المعرفي كان من الممكن أن يوصلنا إلى أن ما يجمع هذه الخطابات الثلاثة التي تصدى الدكتور معجب لقراءتها أكثر وأعمق مما يفرق بينها؛ أي أن أياً منها لم يصل إلى حد القطيعة المعرفية مع غيره. ولكي لا يبدو هذا الاحتمال غريباً فإنني أذكر أن من نسب إليه الدكتور معجب خطاب المحبة (ابن حزم) لا يبعد كثيراً عما تضمنته نصوص خطاب التوحش المنسوبةُ إلى الغزالي. فحين يستهل ابن حزم كتابه بما يشبه الاعتذار عن الكتابة في الحب، ويسم هذه الكتابة بأنها (الفقر) وأنها من قبيل (الباطل) الذي (يكون عونا على الحق)، وحين يتم تمثيل هذه التجربة الإنسانية بشبكة مجازية قائمة على أن من يدخل فيها فقد (وحل من الح ب، وتورط في حبائله، وأضرّ به الوجد)، وأن (السلامة المضمونة) هي (أن يكون الرجل حصوراً لا أرب له في النساء)، ثم حين يتحدث عن النساء و)كيدهن في التحايل لاستجلاب الهوى) وأنهن (متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه، لا شغل لهن غيره ولا خلقن لسواه)، وفي المقابل حين يتحدث عن الرجال وأنهم مقتسمون في كسب المال وصحبة السلطان وطلب العلم... وعمارة الأرض)، وحين تتبدى ذكورية طاغية في وضع شعره دائماً في موقع (الشاهد) على التجربة المحكية، في تكريس واضح لواحدة من ظواهر الثقافة العربية -ولا أقول: نسقها العام الشامل- التي تكاد تقيم مماثلة تطابق بين النسق الذكوري والنسق الشعري، وبالإضافة إلى ذلك كله حين يتبدى الكتاب وكأنه حالة تأطير رمزي لمصائر المحبين والعشاق فيبدون (أفراداً مرضى) خارجين بسبب اعتلالهم وانفلاتهم عن الجماعة (المعافاة!!)، ومن ثم فهم يستحقون تلك المصائر التي يقوم فيها (الهزال) و(الجنون) و(الموت) بدور (الرادع الضمني) عن الدخول في هذه التجربة، وحين يلعب خطاب الكتاب على دلالة ضمنية أعمق وهي أن هذا هو الحال الذي أوصلنا إليه (التسيب الليبرالي) - على حد مصطلح جورج طرابيشي- الناجم عن صراعات ملوك الطوائف بالأندلس، ومن ثم فالدولة الموحدية الأموية التي يتشيع لها ابن حزم تكون هي الأمثل من تسيب هؤلاء - أقول: حين يقع ذلك كله في نص ابن حزم فإن مد الخطوط الدلالية لهذا التفكير على استقامتها توصل إلى نص مثل نص (التبر المسبوك) سواء كتبه الغزالي أم كتبه غيره. ومن ثم سيمتد التصنيف الثنائي للمرأة الذي أقامه ابن حزم على معيار الضبط الخارجي، ملغياً أي إرادة داخلية لها، فتكون (المرأة الصالحة هي التي إذا ضُبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضُبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحايلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل) أقول: إن هذا التصنيف الذي يقدم على أنه هذه هي طبيعة المرأة وجبلتها سيمتد إلى ذلك التصنيف العشري في كتاب (التبر المسبوك) القائم على معيار مشاكلة طبائع النساء لأخس طبائع الحيوانات.
ثم أليس ثمة دلالة ومغزى ورابط أيضاً بين هذا كله وهذا الغياب المدوي لموضوع المرأة في المدونة الفلسفية لابن رشد الذي سيولد بعد الغزالي بخمسة عشر عاماً؟ لقد جعل هذا الغياب الدكتور معجب يتلقف هذه الفقرة العابرة من تلخيص ابن رشد لجمهورية أفلاطون، وهو بالمناسبة تلخيص تم بناء على طلب الحاكم الذي ربما كان يريد مزيد معرفة بكيفية (سياسة الناس). ولقد كنت أود هنا أن يقرأ الدكتور معجب هذا الغياب بعيداً عن روح التمركز المغاربي الذي ظل عابد الجابري ينفخ فيه ليخترع ما يسميه بـ(المدرسة الحزمية_الرشدية الفلسفية المغربية الأندلسية العلمية البرهانية) إزاء (فلسفة المشارقة البيانية العرفانية الغنوصية). وأتصور أن قراءة ابن رشد بعيداً عن هذا التأثير كان من الممكن أن ترى إلى موضوع المرأة في السياق الرشدي بما يكشف عن حقيقة أن هذا السياق كان لا بد أن يفضي إلى وضع المرأة في إطار (اللا مفكَّر فيه) معرفياً حيث الانشغال الأساس هو إقامة بطولة ذكورية على نصوص أرسطو وفض مغاليقها.
وفي النهاية ربما لي أن أتساءل: ألا تلتقي الخطابات الثلاثة في أس مهم من أسس موضوع المرأة وهو قضية الجسم أو الجسد أو البدن، حيث تنتصر خطابات هؤلاء جميعاً لطرف الثنائية الثاني (الروح) مع ما يشتمل عليه هذا الموقف من تمثل حضور الجسد الأنثوي قريناً لكثافة حضوره دالاً تبريرياً للإعاقة في سبيل إظهار التطهرية والتسامي؟
ثم ألا تلتقي الخطابات الثلاثة في هذا الموقف التمييزي بين (الخواص) و(العوام)، وهو الموقف الذي جعل الغزالي يكتب عن (إلجام العوام عن علم الكلام)؟ ثم عن انقسام الرأي - أي رأي المثقف بتعبيرنا المعاصر- إلى ثلاثة أنواع: ما يشارك الجمهور فيما هم عليه، وما هو بحسب السائل والمسترشد، وما هو بينه وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه)؛ وهو تقسيم يضع المثقف في اشتغال دائم مع ازدواجاته الانفصامية. وهذا الموقف نفسه هو الذي جعل ابن حزم يبرر شرعية الحب بأنه يقع لـ(الكبار من رجال الدولة، ودعائم دولتهم والصالحين والفقهاء)، وهو الذي جعله يقسم أصحاب تجارب الحب والهوى إلى من يكون ذكر أسمائهم عورةً؛ لخطورة مناصبهم ومكاناتهم، ومن يذكر؛ لأنه لا خطر من ذكره، وهؤلاء عادة هم من فئة العوام التي (لا يضر) إشاعة أسرارها. أما موقف ابن رشد فقد كان الأبعد بمدونته الأرسطية عن مخاطبة العوام أو الحديث عن انشغالاتهم الحياتية.
وبعد.. فما هي الصورة التي يتحرك بها الخطاب عن المرأة في هذه الخطابات الثلاثة؟ أليست صورة يغذي فيها السابق اللاحق في نسق يتصاعد من ربط المرأة بـ(دائرة الجنون)، إلى ربطها بدائرة (الحيوان)، ثم أخيراً إلى دائرة (الوأد المعرفي)؟!