بعد عقد كامل من التأمل والتأني، وبعد مجموعته القصصية (فضة) الصادرة عام 1419هـ صدرت للأديب القاص جمعان الكرت مجموعة جديدة وسمها بعنوان (عناق)، واشتملت على العديد من النصوص القصصية؛ حيث ظل القاص الكرت وفياً للبيئة الجبلية؛ إذ صافح القارئ لأول وهلة بقصة (عناق) التي حملت اسم المجموعة بفضاء سردي يستلهم البيئة الجنوبية في جبالها وريفها.
فقد ذهب الكرت إلى رغبة قوية نافذة تتمثل في صنع رابط وجداني عميق بين القارئ والبيئة الريفية على لسان الراوي الذي أخذ على عاتقه مهمة سرد تفاصيل حكاية السيد (ربيع) الذي تداخلت ذكرياته مع واقع الحال في بيئته المحلية الموغلة في بساطتها وريفيتها التي تتخذ من الجبال والذباب والخضرة وشجرة الحماط مقراً لها، ومستودعاً لذاكرتها المعمّرة.
في القصة تكريس لبناء أرضية القص التي عمد الكاتب إلى تهيئتها في ذهن القارئ؛ لكي يكون الرابط - كما أسلفنا - محققاً لأبعاد الحياة المستوحاة من الطبيعة التي عمرها التغيير والتحول الحضاري على نحو ما ورد من تفاصيل في القصة الثانية من المجموعة (البقعة)؛ حيث نرى (الكرت) وقد اعتنى بترتيب الخطاب الإنساني الذي يفرّ من منغصات الحياة الجديدة، ويجزع كما (الجبل الأشم) في هذه القصة حينما يخترقه سواد التحول، لتحاول الحكايات أسطرة معاناته حينما عمره الأسفلت وشقت جوفه الأنفاق، لكنه لا يزال محافظاً على وقاره، محتفياً بالمطر والخضرة رغم قسوة السواد.
في القصص هواجس على هيئة رسائل إنسانية تسجل موقفها الواضح من الحياة التي لم تعد هي منذ زمن؛ فقد احتالت إلى مجرد مسخ حضاري مشوه أفقدها الاتزان؛ فلم تعد هي تلك البيئة الجنوبية الموغلة في بساطتها وألفتها للسكون، ولا هي تلك البلاد الضاجة بصخب حياة المادة ولمعانها، فالضحية حسب رؤية (الكرت) وشخوص قصصه هي الإنسان الذي لا يزال يناضل من أجل بقاء الأرض لأهلها البسطاء على نحو قصة (الخبر).
تحضر البيئة بوضوح في قصص جمعان الكرت دائماً؛ فها هي قصة (غرفة 34) تستنطق مخبوء الحكاية لرجل هبط من الجبال نحو أحزان السهول التي لم تعد قطرية مترامية، بل نراها وقد غصّت في حياة جديدة من بناء وسيارات وحديد، وزجاج.. وبشر لا رابط بينهم سوى أنهم من فصيلة البشر، وأشد ما لفت نظره هو أن هؤلاء لم يعودوا عابئين حتى بالمطر.
تتواتر قصص مجموعة (عناق) مبنية على هاجس الفقد الذي يتغشى الراوي حينما يهم بسرد التفاصيل الدقيقة عن عوالم الإنسان البسيط الذي يجسد ألم ابن الريف وإن لم يكن ريفياً؛ لأن الخطاب الذي يبثه الكاتب ويلقنه للراوي في أحايين كثيرة لديه رغبة قوية في استنطاق مخبوء حالة العجز والتردي الذي يعيشه الإنسان البسيط في أي مكان حتى وإن ترك القرية كما في قصة (حنجرة الليل)، أو اتجه إلى البحر في قصة (اللزوجة) حيث حمل هموم الإنسان البسيط.
في قصص الكرت لغة سردية مقتضبة عُني فيها بالقضايا اليومية، وهموم البيئة القروية والريفية، فلم يشأ الكاتب أن يكون أكثر توسعاً في هذه القضايا، إنما قدّم القاص خطابه المحدد، الذي ينبني على ثنائية (الإنسان - الأرض)؛ فلم تخرج القصص عن هذا الهاجس المؤطر بهمّ الحياة اليومية.
انتهج القاص جمعان الكرت أسلوب الواقعية الحكائية في السرد؛ نظراً إلى أن الأحداث التي وصفها ذات طابع استلهامي لحيثية المعاناة اليومية التي تدور حول منغصات الحياة وآلامها؛ ففي كل حدث من الأحداث في القصص رؤية متكاملة تحدد أبعاد القضية على نحو ما ورد في قصة (الغاية)؛ حيث غرز الراوي في خاصرة الأحداث شكوك الأسئلة التي تستنطق حالة الفراق الأليم لحياة كان هو الذي يصوغ ألمها للآخرين حتى انقلب السحر على الساحر في القصة، فأصبح الكرسي فارغاً منه قبل أن يفرغ الرجل (البطل) شحنات مطالبه الدنيوية المقيتة.
حركة الزمن في القصص إجمالاً مؤطرة وغير بعيدة عن أهداف وأفكار النصوص، رغم محاولات الراوي الاتكاء على التاريخ أو الماضي بوصفه تراكماً منطقياً لخبرات الشخوص في حياتهم على نحو ما ورد في قصة (الزمن اللدن).
المكان خاص ومحدد في معظم قصص مجموعة (عناق) وإن حاول الكاتب الدفع في اتجاه رسم تفاصيل (سهول) و(بحر) إلى جوار البيئة الرئيسية الريفية التي عني فيها (الكرت) تماماً ليصوغ للقارئ خطاباً إنسانياً معبّراً أصبح هو الرابط الوجداني الذي يمكن له أن يقرأ كل التفاصيل من جديد؛ فهو لا يمل من تكرار خطاب القرية والريف والجبل والخضرة والمطر بوصفها مهداً لذاكرة ريفية قوية وفاعلة في الحياة.
****
إشارة:
عناق (قصص)
جمعان بن علي الكرت
الباحة (ط1) 1429هـ
تقع المجموعة في نحو (140 صفحة) من القطع المتوسط