في الخامس والعشرين من أيلول 2003، غيَّبَ الموت المفكر الفلسطيني البارزِ البروفيسور إدوارد سعيد، فأخرجه فَحسْبْ، من صفِّ الأحياء بامتيازْ، حيثُ أمضى عُمُراً قاربَ الثمانية والستين عاماً، إلى صفِّ الخالدين، حيث العُمْرُ يتواصلُ بلا نهاية. لقد أخرجَ الموتُ إدوارد سعيد، فقط، من ألمٍ مُمضٍّ، عاناه طيلة أعوامِهِ الاثني عشر الأخيرة.
التقيت بالدكتور إدوارد سعيد لأول مرة في مؤتمر (الخريجين العرب من الجامعات الأميركية) في شيكاغو عام 1980، ولكن علاقتي الحميمة بهذا المفكر الفلسطيني الفذ بدأت قبل أن التقي به شخصيا.
كان أهم ما قرأته له كتابه الأساسي (الاستشراق) Orientalism الذي ترجم إلى العربية، ترجمة جميلة قام بها الصديق كمال أبو ديب. من عادتي أن أخاطب من ألتقي بهم لأول مرة أن أقرن الاسماء بالألقاب، وعندما ناديته: دكتور ادوارد، قال مبتسما: إدوارد من فضلك، إدوارد بس. كثيرا ما يدركني الخجل في هذه المواقف لكنه أزال تكلفا...
لَقَد أراد إدوارد سعيد في هذا الكتاب أن يضع اللبنات الأولى والصحيحة لتصحيح الوعي الغربي المغلوط بسبب مغالطات المستشرقين ورؤاهم الأيديولوجية الأحادية الجانب. ورُبَّما يجوز تلخيص مشروعه في تعرية الاستشراق في أنَّهُ لا يريد قراءة ما هو أمامه، أي تحويل الشرق إلى نص أو بنية نصية والنظر في كيفية استنطاق المستشرقين لهذا النص واستجلاء غوامضه بما يخدم الغرب ويعزز مصالحه ومواقعه.
لم يأبه إدوارد سعيد - من موقع قوة الحق، وثقته بما يملك من حق، وببراعته وموهبته وقوة المنطق والحجة - بالموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، ولم يأبه بسطوة إعلام المنطق المعوجّ وسيادته شبه المطلقة، فانطلق من معقل سيطرة اللوبي الصهيوني وميدان فاعليته ليوضح بمقالاته وكتبه وأبحاثه حقيقة الحركة الصهيونية، وأن احتلالها لفلسطين لا يختلف أبداً عن مخططات الغزو الاستعماري للعديد من دول العالم، ويبين من ثَمَّ أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين متساوٍ في المبدأ والممارسة وحَتى الغاية مع الدول الاستعمارية.
ولذلك يؤكد إدوارد سعيد أنهُ لا يجوز النظر إلى الحركة الصهيونية على أنها (حركة تحرر وطني يهودية)، كما هو شائع في أوروبا وأمريكا، وإنَّما يجب النظر إليها بوصفها أيديولوجيا غازية واحتلالية بحثت عن مستعمرة لها في الشرق كما بحثت الدول الاستعمارية عن مستعمرات لها. ويزيد إدوارد سعيد بأن هذه الأيديولوجيا تختلف عن غيرها من الأيديولوجيات الأوروبية الغازية بأَنَّها عنصرية استثنائية متصلبة.
وعلى هذا الأساس لم يجد في (اتفاقية أوسلو) التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل إلا خيانة منذ بدايتها، وقد وصف الاتفاقية بأَنها (عهدٌ انتهازيٌّ بَيْنَ سفاحين؛ إسرائيلي وفلسطيني متعطشين للقوة). ورأى أن هؤلاء الفلسطينيين (عرضوا القضية للخيانة وفرطوا بالوطن).
تابعت إدوارد سعيد، وأزعم أنني قرأت كل كتبه ومقالاته، وأشهد أنه تحقيق لوعد تصورته وتمنيته. أستاذ جامعي مقتدر في مادته، وهي الأدب المقارن، ولديه كفاءة تتسابق الجامعات الأميركية إلى طلبها، وقد سبقت اليه جامعة كولومبيا وأصبح فيها الاستاذ المرموق والنجم اللامع.
وقد أضاف إلى هيبة الاستاذ الجامعي والباحث المرموق قيمة المثقف ورؤيته وقدرته على الفعل، ثم تجلت شخصيته حين استطاع ان يحقق لنفسه ذلك التوازن الضروري لمن يريد أن يخاطب العالم والعصر فعلا، بحيث يقرأ له أو يصغي اليه كلاهما باحترام واهتمام، وذلك التوازن - على بساطته - معضلة بين العرب، ولعل شرطه الغائب عن بعضهم، معظم الوقت: أن يكون الكاتب أو المتحدث متعمقاً في موضوعه بما يجعله مُصدَّقا ومقبولا لدى الآخر... وهكذا كتب إدوارد سعيد، وهكذا تكلم وحاضر وناقش، واستمع اليه العالم والعصر باهتمام كبير واحترام فائق، حتى وأن كانت الكتابة والكلام بالاختلاف
وكما يقول عنه بول بوف Paul Puffفي كتابه (إدوارد سعيد ومهمة الناقد): (... إنهُ الأكاديمي والمفكر العالمي الذي يعدُّه كثيرون واحداً من نخبة مثقفي القرن العشرين الذين استطاعوا القيام بدور الجسر بَيْنَ ثقافات مختلفة).
لَقَد انطلق إدوارد سعيد، من فهمه بنية السياسة الأمريكية وآلية اتخاذ القرار الأمريكي، ومن إدراكه تعذر ممارسة ضغط أو تبديل أو تغيير في القرار الأمريكي من الأعلى، وفي ذلك يقول: (حاولت منذ منتصف الثمانينات أن أوثر في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي كل فلسطيني أو عربي أقابله، في أن البحث عن مُدافِع في البيت الأبيض ليس إلا أضغاث أحلام، طالما أن جميع الرؤساء المعاصرين مكرسين للأهداف الصهيونية)
جاء إدوارد سعيد الىبيروت عام 1981. كانت زيارته الأولى بع د طول انقطاع. وصحبته يوما كاملا من العاشرة صباحا إلى الثانية عشرة ليلا.
كان يستعيد الزمن من خلال المكان. وجرى حوار طويل بيننا عن علاقة الزمان والمكان، عن التاريخ. وخلال اللقاءين الأول والثاني كانت المودة بيننا وكأننا نعرف بعضنا منذ عقود. ليس هذا غريبا على الكتاب الذين يعرف كل منهم الآخر من خلال كتاباته.
وحتى آخر لقاء لنا، في شقتي في بوروس، عن-دما جاء للمشاركة في فعاليات (المعرض الدولي للكتاب) (الذي يقام سنويا في غوثنبيرغ) وصدور الترجمة السويدية لكتابه (خارج المكان) Out of Place، كنا نتخاطب بحميمية... حبي له كإنسان عميق، وتقديري له كمثقف موسوعي يتسق مع نفسه، مع ضميره، ذي رؤية إنسانية، كونية. ولعل في سيرته العلمية التي اكتملت للأسف الشديد ما يهتدي به بعض المثقفين العرب الذين يمرون بمرحلة اضطراب، لكثرة النماذج التي تتهاوى وتترخص، ولا أريد أن أذكر أسماء.
لكن لا يمكن فهم موقف إدوارد الا باستيعاب نقيضه، أعني أولئك الذين استقروا مثله في الولايات المتحدة، وأصبحوا أساتذة في جامعات كبرى، لكنهم وظفوا ثقافتهم للدور النقيض، لتبرير السياسات الأميركية، ولتحقير العرب والثقافة العربية، أصبحوا جزءا من الآلة الأميركية المعادية للعرب، وللثقافة العربية، رغم انتماءاتهم الأصلية. أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، اللبناني فؤاد عجمي، والعراقي سمير خليل، والسوري نبيل الصايغ. .. وفي مواجهة هؤلاء وقف إدوارد سعيد كمثقف انساني عظيم، يفكك رؤية الغرب إلى الشرق العربي، ويحلل مكوناتها.
على مستوى التاريخ والحاضر، لا يكتفي بدراسة الجذور دراسة امكانية، انما يتجه إلى الواقع الآني، ولعل كتابه (تغطية الاسلام) Covering Islam الذي يفضح فيه أساليب الاعلام الغربي في النشر عن الاسلام وعن الثورة الايرانية بالتحديد، كان بمفرده ولكن صوته كان قويا، يحظى باحترام عظيم في نقده للسياسات الفلسطينية على امتداد العشرين عاما الأخيرة.
كان إدوارد انسانا بسيطا في مظهره ومعاملاته مع الآخرين، وتمر أمامي الآن صور عديدة لجولاتنا في بيروت ولندن ونيو يورك.
وكان طيبا إلى أقصى حد، قويا، صلب الارادة، منذ أن بدأ مرضه، لم يهن، ولم يتقاعس، وآخر مقال قرأته له نشر في صحيفة The Independent on Sunday البريطانية قبل رحيله بأيام.
عندما رأيته في آخر مرة كان غائر العينين، كثّ اللحية، محبا جدا... وعندما قلت له مداعبا أن هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها بلحية كثِّة، وأني قريب الشبه من إرنست همنغواي، الروائي الأمريكي المعروف الحائز على جائزة نوبل، قال إنه لا يستطيع حلاقة ذقنه، أي جرح يمكن أن يهدد حياته، مناعته ضعيفة نتيجة العلاج الكيماوي المقاوم لسرطان الدم الذي يعاني منه منذ سنوات. كنت مشفقا عليه. ..
عندما وصلني نبأ رحيله، ظللت للحظات صامتا في مكاني... لم تصدر عني حركة، حتى الأنفاس أحسستها متجمدة. النبأ وحده أكبر من صمتي... جلست تغمرني وحدة عميقة وشعور بالكآبة لا يوصف، أستعيد لقاءاتي به، في بيروت، في لندن، وفي شقته في نيويورك.
لقد أحسنَ شاعرُنا الكبير المرحوم محمود درويش حين كتبَ في وداع إدوارد سعيد يقول: (يلتقي العالمُ اليومَ مع فلسطين في لحظة نادرةٍ، لأن إدوارد سعيد بضميره الحيِّ وثقافتهِ الموسوعيةِ، وضع فلسطينَ في قلبِ العالمِ، ووضع العالمَ في قلبِ فلسطين....) كان إدوارد سعيد، المفكرَ الفلسطينيَ، الأميركيَ، الكونيَ، الإنجاز الأكبرَ لشعبنا الفلسطيني، على مستوى نتاجِه الفكري، في نصفِ القرنِ المنصرم، وأحدَ أبرزِ إسهاماته في حضارة العالم الحديثة، وذلك كن خلال انتاجه الفكري الغزير المتمثل في عشرين كتاباً، أهمها وأكثرُها شيوعاً وانتشاراً: (الاستشراق)، (الثقافة والإمبريالية)، (ما بعدَ الكولونيالية)، (قضيةُ فلسطين)، تغطية الاسلام (خارج المكان) ومئاتِ الدراسات والأبحاث العلمية والمحاضراتِ والمقالاتِ، التي أثارت جدلاً لُجاجاً، وحواراتٍ مستفيضةً، في كل عواصم الدنيا... ولعل أصدق تعبير عن حجم خسارتنا بفقدان إدوارد سعيد هو ما قاله المفكر الأميركي نعوم تشومسكي Naom Chomsky في رثاء الراحل الكبير: (إن موته خسارة فادحة... فقد أُشتهر، عن جدارة، بمساهماته اللامعة في إنتاج ثقافي غَيَّر عملياً من طرائق رؤيتنا للعالم الحديث ولأصوله التاريخية... وكان يناضل، بلا كلل ولا هوادة، من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ليس للشعب الفلسطيني وحده، وهو الذي لا يُضاهى في النطق باسمه، مُحيياً آماله وقضيته في أزمنةٍ مظلمةٍ فاجعة، وإنما أيضاً للعديد غيرهِ من الشعوب المحرومة والمع-ذبة في أرجاء العالم كافة... وإنني لواثق أن ميراثه سوف يكون مصدر إلهام وقيادة لسنواتٍ عديدةٍ في الزمن اللاحق، وخيرُ تكريم ٍ لهذا الإنسان الرائع، أن نسعى بأفضل ما نستطيع لمواصلة التقدم في الدروب التي فتحها ومهّدها بكامل تألقه ونزاهته).
قبل رحيله بشهر، فوجئت به يتصل بي على الهاتف النقال، لم يكن ثمة سبب محدد، كان يسأل عن أخباري، عن آخر كتبي، حدثته عن بحث أعده عن (العنصرية في الأديان)، ثم سألته عن أخباره، فقال لي انه يستعد (للقاء الموت)، وبرحيله أشعر وكأن جزءا حميما مني قد اندثر!!
ادوار سعيد، أيها الأستاذ الكبير والأخ العزيز والصديق الصدوق، هل أقول سلاما، أم أقول وداعا؟ إدوارد سعيد ؛ أنت أكبر من السلام، وأكبر من الوداع.
من حسن حظي أنني عشت في زمن الكبار.... ومن بين هؤلاء الكبار عملاق فلسطيني تعلمت منه كيف أطرح السؤال عن الانتقال من زمني إلى زمني، وكيف أبقى مخلصا لما تعلمت منه...على الرغم من أن كل ما يحيط بنا في هذا العالم العربي الممتد من طنجة إلى بغداد يقدم الخيبة تلو الأخرى، والنكسة تلو الأخرى، حتى نكاد نندم على ما تعلمناه... وما كنت فعلت.
إدوارد سعيد ؛ سلاما وتحية، ففي التحية الحياة... التحية هي المحافظة على وديعتك التي أودعتها لدى كل من لا يزال مؤمنا بأن المقاومة هي كل ما نملك، وبأن الوعي النقدي هو الطريق. كتاباتك علمت الكثيرين ممن لا نعرفهم ؛ لأنهم اليوم في كافة أرجاء العالم... انهم قليلون، معزولون، وهم - مع ذلك - بفكرك ومواقفك في الثبات على المبدأ، يواصلون طريق المقاومة : أبجدية من أعطوا للبشرية، عبر تاريخها الحضاري الطويل الذي يمتد عبر آلاف السنين، ما تستحق به الاقامة على الأرض.
إدوارد سعيد؛ أيها المقدسي الفلسطيني الكبير، سلاما...!!
باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد