جدة - الثقافية- صالح الخزمري
قارئ نهم لم يدلف إلى ساحة الأدب إلا متأخرا بعد أن تشرب المعارف، وكان من حظه أن استوطنته باريس عاصمة الشغب الثقافي، فجمع الثقافتين الغربية والشرقية، ولم يكن كمن انخدع ببريق الثقافة الغربية ونسي أو تناسى جذوره بل وتنكّر لها.
يدعو دائما إلى معرفة لغة الآخرين وثقافتهم لأن ذلك مدعاة لمعرفة لغتنا وثقافتنا. من القلائل الذين منحوا الشأن الاجتماعي اهتماما منقطع النظير، في كتاباته ناقلا صوت المواطن من خلال قراءة واعية لهموم المجتمع بأسلوب قوي وجريء.
عابد خزندار على الرغم من دراسته وتخصصه العلمي في الزراعة والكيمياء العضوية إلا أن القارئ عرفه منهمكا بالمدارس الأدبية، وقد أسهم إسهاما كبيرا في حركة النقد والثقافة في بلادنا، أما مؤلفاته فيمكن وصفها بموسوعات الحداثة. والمؤسف أن الأضواء لم تسلط عليه بالصورة التي تعطيه حقه، وتقدمه للجيل كنموذج للمثقف الواعي. (الثقافية) قلبت أوراق الخزندار من خلال الحوار التالي:
القراءة بوابتك الأولى. كانت تلك إجابة لك على سؤال عن غيابك منذ ثلاثين سنة. فكانت الإجابة: كنت أقرأ. كيف توجه جيل اليوم الذي اضمحلت ثقافته بسبب جفوته للقراءة، وهل قراءتك المتعمقة هي التي جعلت الحداثة لا تنقلب عليك؟
- القراءة لا تعني مجرد استيعاب النص أو الإلمام به أو تكوين فكرة عنه إنها تعني سبر غوره والبحث عن الحقيقة الكامنة فيه، والحقيقة التي أعنيها ليست هي الحقيقة التي تبدو لنا لأول وهلة، إنها ما سميتها بحقيقة الحقيقة، وبسطت القول فيها في كتابي: معنى المعنى وحقيقة الحقيقة، وقد انتهيت في هذا الكتاب إلى أن الشعر الجاهلي تولّد نتيجة لصراع بين نظامين: نظام مستبد يتمثل في كليب وحجر والد امرئ القيس، ونظام ينشد التحرر وينشده عبيد بن الأبرص، أي أن حقيقة الحقيقة في الشعر الجاهلي ليست غزلا أو بكاء على الأطلال أو وصفا للناقة، إنه صراع بين نظامين، وإذن فنحن لا نستطيع أن نفهم الشعر الجاهلي إلا إذا أدركنا ذلك، بل إننا لن نفهم العالم نفسه إلا إذا أدركنا حقيقة الحقيقة الكامنة فيه، وأنت تسألني كيف أوجه جيل اليوم الذي يجفو القراءة وأنا لست موجها، ولكنني أقول: إنه بدون القراءة والقراءة التي تبحث عن حقيقة الحقيقة فإننا لن نفهم العالم، بل قد ننخدع بما تبثه وسائل الإعلام أو الميديا، ومن باب التبسيط سأضرب مثلا على ذلك: غزو العراق واحتلاله، وسائل الإعلام قالت: إن سبب الغزو هو البحث عن أسلحة التدمير الجماعية، ولكن القراءة الحقيقية للوضع أثبتت أن الهدف هو النفط وهذا هو الذي يحدث الآن حيث تتسابق شركات النفط الكبرى وخاصة الأمريكية على الفوز بآبار النفط
إذن المراد بحقيقة الحقيقة أن هناك حقيقة ظاهرة وحقيقة باطنة وحقيقة أولية وحقيقة ثانوية وما ذا تقصد بمعنى المعنى؟
- معنى المعنى أن كل معنى له لفظ ظاهر ومعنى باطن أو معنى أولي ومعنى ثانوي مثلا قول الشاعر:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
المعنى الأول: اللؤلؤ المعروف يتجاوز إلى المعنى الثاني المقصود به الدموع
قراءتك في التراث وقراءتك في الثقافة الغربية ضدان لم يطغ أحدهما على الآخركيف حافظت على هذه المعادلة الصعبة؟
- إنها ليست معادلة صعبة، وجوته فيما أذكر يقول: إن الذي لا يعرف لغة أجنبية لا يعرف لغته، وقياسا على ذلك فإن الذي لا يعرف ثقافة الآخر لا يعرف ثقافته، وأنا حين قرأت للفلاسفة الغربيين وجدت أنها تحيلني إلى ابن رشد وابن سيناء وابن خلدون، بل إنني لم أفهم ابن خلدون إلا بعد أن قرأت أعمال كارل ماركس، والعملية عكسية، بمعنى أنني بعد أن قرأت الفلاسفة تأت أاااااتت الغربيين استطعت أن أستوعب وأفهم أعمال الفلاسفة العرب، ولأضرب لك مثلا على ذلك: إذ إنني لم أفهم أعمال البلاغيين العرب ابتداء من ابن المعتز ومرورا بعبد القاهر وانتهاء بحازم القرطاجني إلا بعد أن قرأت كتاب الشعر لأرسطو، بكلمات أخرى أنني لا أستطيع أن أفهم نظرية التخييل عند حازم إلا بعد أن أفهم نظرية المحاكاة عند أرسطو، أنتهي من ذلك إلى القول: أن الثقافتين الغربية والعربية ليستا ضدان بل مكملتان لبعضهما، وهذا التكامل يتجلى في كتابي: معنى المعنى وحقيقة الحقيقة إذ إن السميوطيقا الغربية المنشأ وجماليات عبد القاهر مكنتني من قراءة الشعر الجاهلي والوصول إلى حقيقة حقيقته.
في خضم هذه القراءات أي الأل قاب أقرب إلى نفسك: الناقد، أم الفيلسوف، أم الحداثي المجدد؟
- لست ناقدا إذ إن النقد تقييم وحكم، وأنا لا أمارس أي تقييم أو حكم، كما أني لست فيلسوفا ولكنني قارئ، والقراءة في رأيي عبارة عن نص مواز للنص أو مقابل له ويمكن أن نطلق عليه باللغة الإنجليزبة metatext
برأيك الرواية بعد نجيب محفوظ إلى أين؟
- الرواية بعد نجيب محفوظ تختلف عن الرواية قبله، فالواقع تغير وكل واقع يفرض نوعا معينا من الرواية حتى نجيب محفوظ نفسه له روايات تختلف عن بعضها مثلا: الكرنك، يوم مات الزعيم، تختلف عن: السكرية، وبين القصرين، وقصر الشوق، لأن الواقع تغير.
استوطنتك عاصمة الشغب الثقافي باريس. فكيف كان وقعها المباشر على ثقافتك؟
- استفدت من إقامتي في باريس كثيرا فقد كنت منتظما في الدراسة بالجامعة الأمريكية، كما كنت أحضر محاضرات في الكوليج دي فرانس مع أمبرتو أكو واندري ميكيل، وباريس مدينة ثقافية ولا تخلو من معارض ونشاطات ثقافية، وكنت أواظب عل حضور هذه المعارض، إلا أنني تكاسلت عنها في المدة الأخيرة رغم أن بعض هذه المعارض تشرف عليها ابنتي منى، وآخر معرض أقامته هو معرض لأم كلثوم.
منحت الشأن الاجتماعي مساحة عظمى من كتاباتك. فهل لمست صدى لما كتبت؟
- على المرء أن يكتب حتى لو لم يجد صدى لما يكتبه، ومع ذلك كان هناك تجاوب من المسؤولين على بعض ما طرحته من قضايا، ومن هذه القضايا جعل مكة المكرمة هي عاصمة فعلية لمنطقة مكة المكرمة
ماذا تعني لك هذه الأسماء: د. الغذامي، د. السريحي، محمد العلي، محمد الثبيتي، د. عالي القرشي؟
- أنا لا أقيم ولا أحكم، ومع ذلك يمكنني القول: إن الغذامي ناقد مميز ويعتبر رائدا للنقد البنيوي، أما السريحي فهو ناقد مبدع ولكنه لم يأخذ حقه من التقدير، وعالي القرشي ناقد مميز وأتابع ما يكتبه في صحيفة الرياض، والعلي والثبيتي شاعران مبدعان حقا، وهما رائدان من رواد الحداثة في بلادنا، ويبدو أنني تورطت فعلا في الحكم، لا ضير ولكن ما أريد أن أقوله هو أن لدينا نقادا وشعراء نفتخر بهم وهناك أسماء أخرى غير التي ذكرتها كسعد البازعي ومعجب الزهراني ومحمد جبر الحربي وعلي با فقيه وحسين با فقيه، وممن لا تحضرني أسماؤهم، وبجانب هؤلاء الشعراء والنقاد لدينا كتاب رواية أعد منهم ولا أعددهم: صبا الحرز(اسم مستعار) ومحمد حسن علوان وأميمة الخميس وعبده خال ومحمود تراوري وعبد الله التعزي، والذين لم أذكرهم لا يقلون إبداعا عن الذين ذكرتهم.
ما الدافع لكتابتك عن الحب في كتابك (قراءة في كتاب الحب)؟
- الحب هنا مجاز والمقصود: قراءة في كتاب الحياة والبعض وصف هذا الكتاب بأنه رواية وبعضهم الآخر قال: إنه سيرة ذاتية، وهو في رأيي ليس هذا وذاك، بل إنه كتابة ولا أجد له وصفا غير هذا الوصف، وهي كتابة عن حالة حياتية عشتها، وقد كتبت هذه الحياة في نفس الوقت الذي كتبت فيه النص، أي أن الحالة الحياتية كتبت نفسها، ولهذا فإن الكتاب لا يندرج تحت أي جنس من الأجناس الأدبية.
هل أنت راض عما قدمته (دار الخزندار للنشر) حتى الآن وعن دورها في تنوير المجتمع؟
- أنا راض من الناحية المعنوية فقد نشرت لكتّاب وأدباء أقدرهم حق التقدير مثل أحمد حجازي وأحمد مرسي، وغير راض من الناحية المادية وقد انسحبت من عالم النشر ووجدت أنه لا ينجح فيه إلا أشخاص عندهم حاسة شم قوية للكتاب الناجح الذي يمكن أن يبيع نصف مليون نسخة بصرف النظر عن اتجاهه، أي ليس من المهم أن يكون الكتاب يمينا أو يسارا أو دينيا أو علمانيا المهم أن يبيع
هل فعلا أن الكتابة الصحفية سرقتك من النقد؟
- لم تسرقني من النقد لأنني لست ناقدا، ولكنها سرقتني من الكتابة الثقافية، ومع ذلك استطعت في السنوات الخمس الماضية التي مارست فيها هذه الكتابة أن أترجم كتابين هما: المصطلح السردي، ومعجم مصطلحات السميوطيقا.