تطرّقنا في المساق الماضي إلى محدوديّة استقراء القدماء لحياة العرب وثقافتهم، وأن الجهل بحياة العرب، وفكرهم، وعقائدهم، وتاريخهم، وجغرافيّة بلدانهم، كان لدى كثير من علماء اللغة الأوائل أكبر منه لدى بعض الرحّالة من المستشرقين في العصرالحديث. كما أشرنا إلى أن بيئات القبائل العربيّة من التنوّع والثراء بحيث لا يمكن، منهجيًّا، أن تختزلها المعرفة ببيئة قبيلةٍ، أو عشيرة من عشائرهم، ليُكتفَى بتلك المعرفة القاصرة والاستقراء الأبتر، فتُبنَى عليهما تصوّرات قياسيّة عن حياة العرب قاطبة. ولم تك تلك التصوّرات القياسيّة عن حياة العرب تُسقط على المعاصرين للراوي فحسب، بل تُمدّ أحيانًا عبر تاريخهم القديم، وبلدانهم الشتّى، وفوق ذلك يُستدلّ بها لفهم ما جاء في أدبهم، أو جاء حول أدبهم.
ومن جانب آخر، فإن استحضار العوالم الأسطوريّة التي كانت تَحْكُم صراعات الإنسان البدائيّ مع إشكاليّاته الوجوديّة والفكريّة، كعلاقة الحياة بالفناء، والإنسان بالكون، والذكورة بالأنوثة، قد ظلّت مسائل غائبةً، إنْ سهوًا أو مغيّبةً قصدًا؛ لاحترازات دينيّة، وذلك في وقتٍ كان الإنسان ما يزال قريب عهدٍ بشِرك. لذا طُمست تلك الأفكار، كما طُمست الآثار التي تمثّلها من أصنام، وأنصاب، ونقوش، وصُوَر، ونحوها، ممّا كان يُخشى أن يستأنف الذاكرة العربيّة الوثنيّة. وهو ما لم يَعُد هاجسًا ثقافيًّا اليوم، ولا مصدر توجّس دينيّ، ولاسيّما حين يبحث في نطاقٍ علميّ أكاديمي. بل إن الجهل بذلك التاريخ وتلك الأصول هو مصدر الخطورة الثقافيّة علينا؛ من حيث إنّ تلك الثقافة القديمة، وإنْ اندثرتْ أقانيمها واقعيًّا، قد بقيتْ بعض تصوّراتها وفعاليّة رموزها في حياة الناس وممارساتهم واحتفاليّاتهم وطقوسهم، على نحوٍ لا يدركه مَن لا يعرف تاريخ العرب وثقافاتهم الغابرة. ومن ثمّ فإن نقد المجتمع العربيّ وثقافته لن يكون على بصيرة من العِلم ما لم يُدرس ديوان العرب (شعرهم)، لا على أنه مجرّد قصائد شعريّة، بل على أنه ديوان ثقافيّ، بما تعنيه الكلمة من معنى، حافل بأصول التراث العربيّ وفروعه. غير أن الشِّعر العربيّ لن يكشف للقارئ عن مستكنّاته دون محاولة استقرائه استقراء علميًّا معمّقًا - بوصفه السِّجِلّ الأكبر الذي بقي بين أيدينا عن العرب - مع مقارنته بشواهد أخرى ونظائر ممّا لدى الأمم المجاورة والمماثلة.
ومن الحقّ القول هنا: إن علماء الشِّعر القدماء لم ينجزوا تلك المهمّة؛ لا تورّعًا دينيًّا فحسب، ولا لعُجمتهم، أو لأنهم فقهاء لغةٍ ونحو، وأبعد ما يكونون عن تصوّر نواميس الشِّعر - ناهيك عن وظيفة الشِّعر في بيئة كانت تقرن الشاعر بالساحر، أو الكاهن، أو العرّاف، وكانت لدى أهلها لكلّ معطيات البيئتة البشريّة والحيوانيّة والنباتيّة والسماويّة والأرضيّة دلالاتها الرمزيّة ومنطوياتها السحريّة - ولكن فوق ذلك لأن أولئك العلماء قد سَخَّروا الشِّعر لأغراض خارجيّة. وتتمثّل تلك الأغراض في تشييد العلوم العربيّة، بدءًا باللغة والنحو، ثم عِلم التفسير والتأويل، وليس انتهاء بعلم التاريخ والبلدان والجغرافيا. ولذلك فإننا حينما نأتي اليوم لنقول إن الشِّعر شِعر، وإنه مضمار كَذِبٍ وتخييل، وإنه في الجاهليّة كان إلى طبيعته تلك جاهليًّا؛ لأنه لغة أمّةٍ أسطوريّةٍ وثنيّة؛ تعبد الكواكب والنجوم والمرأة والخيل والظباء والمها والطير والشجر والحَجَر، وتوظِّف عناصرها رمزيًّا للتعبير عن همومها وأفكارها وآمالها، بل هي تفعل هذا في النثر والسجع علاوةً على الشِّعر، ثم نذهب إلى أن الشِّعر - بما هو شِعر - هو أصلاً مجاز المجاز، ولغة اللغة، وأقصى أساليب الإيحاء والرمز.. حينما نأتي لقول ذلك، والتسليم به، سيبدو تراثنا الذي بُني على باطلٍ باطلاً، من حيث قد بُني على الشِّعر، منظورًا إليه على أنه وثيقةٌ علميّة نثريّة مباشرة، لا تقبل الشكّ أو التأويل ولا يأتيها الباطل. بل أكثر من هذا: بُني على أن عرب الجاهليّة هم مسلمون (تقريبًا)، لغةً وعقيدة ومجتمعًا! وساعتئذ، ساعة أن نزيح الصفة الوثائقيّة المباشرة عن أساس ذلك التراث المعرفيّ، سيُضْحِي التراث المعرفيّ بدوره في مأزق وثوقيّ. سيُمسي تراثنا المعرفيّ الذي شُيّد على كلامٍ مجازيّ مجازيًّا، والذي أُقيم على كَذِب من يهيمون في كلّ وادٍ ويتبعهم الغاوون ويقولون ما لا يفعلون على شفا جرفٍ هارٍ، مهدّدًا بالتداعي والانهيار، ما لم يستدرك الغيورون على أوهامنا القديمة بمقولة أخرى، تزعم أن الشِّعر العربيّ لم يكن شِعرًا أصلاً، ولا كالشِّعر، وأن الكذب فيه محض صِدق، وكلام الشعراء الجاهليّين علمٌ يقينيّ، يُستدلّ به كما يُستدلّ بخارطة جغرافيّة على المَواطن والديار، وأن الشاعر إذا ذَكَر امرأة - مثلاً - فهو إنما يسرد سيرته الذاتيّة، ويتفضّل بإخبارنا عن علاقاته آل اجتماعيّة، ويعترف بمغامراته الغراميّة مع فلانة بنت فلان من قبيلة بني فلان التي كانت ديارها في مكان كذا، ثم رحلتْ إلى مكان كذا؛ وذلك لكي يُثبت فحولته تلك في سجلاّت الخالدين ومدوّناتهم التاريخيّة، ويرشدنا سياحيًّا بين مضارب الأعراب.. وتلك هي كلّ الحكاية الشِّعريّة العربيّة! وعليه فالمحصّلة لا تقتصر على نفي طبيعة الشِّعر عن الشِّعر، بل إن شهادة القرآن الكريم بحقّ الشِّعر والشعراء أيضا في حاجة إلى تأويلٍ بعيد، أو التواءٍ قريب، تراعي تلك الأهداف الاستدلاليّة القطعيّة بالشِّعر، لا الاستئناسيّة به، ومَن راودته نفسه إلى رأيٍ غير هذا فهو - لا غيره - المتخيّل والكاذب والضالّ والهائم في كل وادٍ، ومتّبعوه هم الغاوون! وبِمَ يدافع من بنَى بنيانه على باطلٍ إلا بباطلٍ أفدح؟! ذلك لأن الاستعداد العلميّ للمراجعة، وتقبّل النتائج - أيًّا جاءت - أمران عسيران جدًّا في بيئةٍ هي نفسها ما برحت تقتات على أشجار الخرافة، ويسيّرها العقل الأسطوريّ، وتسلّم بالمُطْلَقات الموروثة، وتُحبّ أن تستمرّ على ما وجدتْ عليه الآباء، مصرّةً على أن ما تراه، أو تهواه، هو (عنزٌ ولو طارت)!
والمفارقة أن يأتي ذلك المنهج (المعلَّب) الموروث إنطلاقًا من فهمٍ (سطحيّ وحَرفي في آن) للمقولة نفسها التي كان ينبغي أن تكون منطلق بحثٍ واستقراءٍ حقيقيّ، وهي مقولة: إن (الشِّعر ديوان العرب، وعِلْم أُمّة لم تُؤْتَ عِلْمًا خيرًا منه). وهي مقولة لم تُختبر في ذاتها، ولم تُحلّل، ولم يذهب فهمها إلى أبعد من أنها تَعني أن الشِّعر الجاهليّ سيُقدّم إلينا - على طبقٍ من كسلٍ ذهنيّ - معلومات أوّليّة تقريريّة وإخباريّة، لا تتطلب استنطاقًا، ولا سَبْرًا، ولا مقارنة، تمامًا كالخطابة والحكاية والقِصّة والرواية والتاريخ. وعلينا أن لا ننسى في هذا السياق أن الشِّعر وفهم الشِّعر كانا قد انحرفا بالفعل منذ نهايات العصر الجاهليّ عن طبيعتهما الأولى، والأصيلة، أي مذ أصبح للشِّعر دورٌ خطابيّ مباشر، وأصبح الشاعر خطيبًا بالفعل في كثير من الحالات، ووُلدت مدرسة زهير بن أبي سُلمى الذهنيّة، لظروف تاريخيّة واجتماعيّة، فرضتْ دورَ الشاعر المُصْلِح والمُوجِّه والمُعلِّم والداعي للسِّلم والحق والعقل والخير.
ولتلك المخاضات كلّها شرّق الحُكم على الشِّعر العربيّ القديم وأهلِهِ وغرّب، مِن مستغرِب، ومستحسِن، ومستقبِح، ومُطْلِق على القصيدة أحكام التفكّك والسذاجة، أو محمِّلاً إيّاها من المعاني ما لا قِبل لها به. وذلك هو تراثنا العربيّ، وتراث تراثنا القرائيّ، وسالف شروحنا ومواريثها، التي ما انفكّت مدارسنا وجامعاتنا تجترّها، على تغيّر الزمان وانفتاح الثقافات، وتكشّف الأرض عن آثارها، وظهور بعض الحقائق الجديدة، ومعرفة ما لم يكن معروفًا من قبل عن الجزيرة وأهلها وتاريخها. وأكبر برهان على هذا ما كشفته، مثلاً، قرية كِندة بالفاو(1) من واقعٍ حضاريٍّ للعرب قبل الإسلام، وما حملتْه آثارها من معطيات حيّة تدلّ مَن وَقَف عليها على صلة قويّة كانت للعرب باليونان والرومان والمصريّين، إضافة إلى تاريخٍ لم نكن نتصوّر كثيرًا من تفاصيله، يتعلّق بممالك العرب وملِكاتهم وملوكهم وأيّامهم ومدنهم وعمرانهم وتجارتهم. ومع هذا كلّه ما برحنا نقرأ شِعرهم على أنه مجرد شِعر بدوٍ رحّل، لم يكونوا بذوي حضارة قائمة أو موروثة، أنتجتْ ثقافتهم، ومفاهيمهم، وفنونهم، وفِكرهم، وشِعرهم. وما ذلك إلاّ لأننا - مع الأسباب الأخرى - نظلّ نردّد ما قاله لنا أهل البصرة والكوفة، من تجّار الروايات ومتصيديها من أفواه الأعراب في الأسواق، وهم قابعون خارج تاريخ ذلك الشِّعر وجغرافيّته وثقافته. بل ربما لم تنج نظرة بعضهم - إلى الجهل - من شعوبيّة.
ومن هنا جاءت محاولتي قبل نحو عشر سنوات، من خلال كتابي (مفاتيح القصيدة الجاهليّة: نحو رؤيةٍ نقديّة جديدة (عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا))، في مسعى لمراجعة تلك الإشكاليّات القرائيّة؛ وذلك من أجل مقاربة جديدة للقصيدة الجاهليّة، التي تضعنا المكتشفات الأثريّة والميثولوجيّة في الجزيرة أمام وثائق في غاية الأهميّة عن البيئة الثقافيّة التي نبتت بين ظهرانيها، بما تقدّمه من معطيات حيّة وملموسة عن حياة العرب قبل الإسلام، وعن مزاجهم الحضاريّ والفنّيّ والتعبيريّ. وهي مستجدّات تحتّم إعادة قراءة الشِّعر القديم في ضوئها، وتَجاوز ما درجتْ على كرّه على أجيالنا القراءاتُ على مرّ العصور.
* * *
1) تقع قرية الفاو جنوب غرب (السليّل)، وتبعُد عن (الرياض) حوالي 700 كِيل، إلى الجنوب الغربي، و150 كِيلاً إلى الجنوب الشرقيّ من (الخماسين).
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net