نقرأ المدن، ونتعرّف على جوهرها بقراءة الواقع، والتاريخ، قديماً كان أم حديثاً، إلاّ مدينة الطائف، فهي من المدنٍ القصائد في العالم التي ترتبط حروفها بالواقع والتاريخ، وبعالم آخر هو عالم الخيال والدهشة، عالمٌ ملوّنٌ بألوان الطيف، عالمٌ خرافيّ للأماكن فيه سحرٌ وعطرٌ وندى..
عالم يتبارى فيه السحاب مع الضباب، وتتحاور فيه السهول مع الجبال، كما تتفاخر فيه القبائل من ثقيف وقريش وهذيل وعتيبة وبني الحارث وبني مالك، وغيرهم ممن وفدوا من كافة مناطق المملكة، وأنحاء العالم، أيهم الأجدر بصباح طائفي آخر..عالمٌ للماء فيه تاريخ يتأرجح بين المطر والسيول والوديان والينابيع والغدران والصخور.
والينابيع والغدران وإن غارت أو جفت إلاّ أنها تروي الذاكرة بماء كماء جبرة، وغدير البنات، والمعسل..
والماء وإن انتقل عبر الأنابيب، إلا أنه لا يزال يحن لصعود وهبوط الدرج، والتجول في الحارات العتيقة محمولاً على أكتف السقاة، أو (السقايين).
والمسافر للطائف لا يركب طائرة، وإنما يستقل غيمةً، وإن اعتقد عند وصوله أن الغيمة قد أضاعت الطريق، وسافرت به إلى الشام، فقد صح اعتقاده إلى حد كبير، فالطائف كما تقول إحدى الروايات، قرية أو جنة من الشام، وقيل من اليمن، نقلها الله سبحانه وتعالى لتطعم أهل مكة من جوع:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، ومن هنا جاء اسم الطائف لأن جبريل عليه السلام بعد أن اقتلع هذه القرية / الجنة من الشام، طاف بها على البيت، أما الرواية الأخرى، فهي التي ترجعه للسور الذي بنته حول المدينة ثقيف لحمايتها، فهذا السور يطوف حولها.
وسلة فواكه الطائف نادرة حتى في أسمائها وأشكالها وطعمها المميز بدءاً من التفاح الطائفي الصغير، إلى العنب الشفاف الريان، إلى المشمش والخوخ والرمان والتين الذي يعرف بال (حَماط)، أما التين الشوكي، فهو (البرشومي) وينادي عليه الباعة قديماً بلكنتهم المميزة (يا مال الشفا يا برشوم)، أما السدر فلأشجاره هيبة خاصة وجلال.
وللطائف مناحله وعسله الخاص، ف(عسل الشَّفا كله شِفا) حيث تشتهر به هذه المنطقة، وورده الذي تغنى به طلال مداح ليس له مثيل، ونعناعه الذي تتذكره مقاهيه، ودكاته، ومدمنوه من أهل الحجاز، وغيرهم.
وكما وهب تنوع النسيج الاجتماعي البديع الطائف بعداً حضارياً مميزاً، فقد وهبه مائدة مميزة كذلك مقتطفة من أنحاء المملكة والعالم، من أكلات الجنوب واليمن الدسمة، إلى عجائن وحلويات الصين وطاشكند وسمرقند وأوزبكستان وداغستان وغيرها.
أما ثقافياً، فلا يوجد من لا يعرف سوق عكاظ وأهميته التاريخية والثقافية، ولا من لم يفرح بإعادة الاعتبار إليه صرحاً وتجمعاً ثقافياً نعول عليه في خدمة الثقافة والسمو بها في وطننا الحبيب، وها نحن نحتفل بمهرجانه في دورته الثالثة.
ولعل من الطريف هنا أن نذكر أن الطائف ضم أول مكتبة، أو محل لتأجير الكتب، نعم تأجير الكتب، واستبدالها، وتلك مكتبة السيد رحمه الله، وكانت ظاهرة فريدة ساهمت في تثقيف عدد كبير من الكتاب والمبدعين الذين نقرأ لهم اليوم، لأنها ساعدتهم على الحصول على المعرفة المتنوعة بثمن زهيد في وقت كان فيه المال لا يكفي للطعام.
وقد كان الطائف مصدر إلهام وتجمع للشعراء والفنانين، وله الفضل على جيل العمالقة، أدباء وكتاب أغنية وملحنين ومطربين.
وقد حظيت الأماكن المعروفة فيه بحضور مميز في الأغنية السعودية كشهار، ووادي وج، والهدا، والشفا، وثقيف، كما في (يا ريم وادي ثقيف).
والطائف من أوائل المدن السعودية التي أحيت الحفلات الغنائية منذ أكثر من أربعين عاماً، وكذلك العروض السينمائية، والرقصات والألعاب الشعبية، وألعاب الأحياء النادرة كالليري، والبرجون.
ورغم التغير العمراني الكبير الذي طرأ على مدينة الطائف، كما هو الحال مع غيرها من مدن المملكة، إلا أنها تظلّ في عين أهلها، وأحبابها، جنة عذراء كما أنشئت في الأصل، لا يطيقون غير ترابها ومائها وهوائها، وخيالها الواسع الخصب.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5182» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
mjharbi@hotmail.com