عندما تنتهي من تأليف كتابك بعد جهد جهيد، تنظر إلى كوم من الورق الذي يحمل جزءاً من روحك وفكرك، ثم يراودك حلم كل كاتب: أن تصل كتابتك إلى عيون القراء. ها أنت تقف أمام السؤال المحير: ما هي الخطوة التالية؟ كتابك كان إبداعك وعملك الخاص، الآن جاء وقت الخروج إلى عالم الآخرين طباعة ونشراً وقراءة ونقداً ونجاحاً وفشلاً.
كيف تطبع هذا الكتاب؟ بعد انتهائك من الحصول على تصاريح الطباعة والنشر، تجد نفسك أمام خيارين، أولهما أن تبعث به إلى دور النشر خارج وداخل البلاد وتنتظر حتى تقبلها واحدة منها وتقوم بطباعته ونشره وتوزيعه، وفي هذا الخيار راحة بال كبيرة لك، لكنها راحة لا تدر ربحاً يذكر، فقد تصلك بضعة آلاف قد لا تغطي أصابع اليد الواحدة، بالإضافة إلى عدد بسيط من النسخ يغطي بالكاد أصابع اليدين. وأنت هنا تغامر مغامرة كبرى وتتوخى أمانة الدار لأنها ستعطيك تلك الأرباح الضئيلة على الطبعة الأولى التي لا تستطيع أن تتأكد بأي حال من الأحوال من عدد نسخها كما أنك لا تستطيع أن تتأكد إن كانت هذه النسخ ستنفد ويعاد طباعتها بعلمك وبإذنك أم لا.
في معظم الأحيان تكون دور النشر في مواقع بعيدة عنك خارج مدينتك أو حتى خارج بلادك، فعملية التحكم في الطبع وعدد النسخ عادة ما تكون غاية في الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. في كل الأحوال سيُحتسب لك مؤلفاً يحمل اسمك، لكنك لا تعرف لمن وصل إن وصل، كما أنك تظل تحارب للحصول على إذن لدخول مؤلفك هذا للسوق المحلية، وإلا فإنك ستظل تعتذر لأصدقائك ومعارفك وقرائك في الداخل عن عدم حصولك على نسخ كافية ويظل عملك مجهولاً عند أقرب الناس إليك.
الخيار الثاني: أن تأخذ كتابك إلى مطبعة محلية وتخرجه على حسابك الخاص، والتكاليف هنا تتراوح من مكان لآخر ومن مؤسسات لا تعرفك ولا تعرف أحداً من أهلك أو أصدقائك تعطيك سعراً دون مهاودة، إلى أخرى تراعي العلاقات العامة وتمنحك تخفيضاً قد يتناسب مع ميزانيتك. كل المطابع ستقول لك أطبع عدد ثلاثة آلاف نسخة فذلك أربح لك لأن النسبة والتناسب تجعل تكاليف الألف نسخة لا تزيد كثيراً عن تكاليف الثلاثة آلاف، وأنك -إن لاقى كتابك نجاحاً- وأردت إعادة الطباعة فستكون تكلفتك أكبر بكثير. ويلوّح الأمل لك فتقع في فخ الثلاثة آلاف نسخة.
ومشكلة تحملك تكلفة الطباعة لا تتوقف عند إرهاقك مادياً، بل يليها بالضرورة في كثير من الأحيان تكدس منزلك بكراتين الكتب، حينها توقن أن آلاف الكتب تشغل بالفعل حيزاً هائلاً. عندها تبدأ رحلة البحث عن المنافذ، وهي رحلة لا تمت بصلة لمرحلة الإبداع الأولى، مرحلة التأمل والتفكير. ها أنت تحمل نماذج عملك وتدور بها على المكتبات راجياً أن يقبل مديروها وضع بعضها على أرففها على أمل أن تصل لأيدي الناس، وقد يرفض هذا، وقد يطلب ذاك مهلة لدراسة الأمر العويص ثم يهملك، وقد يقبل آخر فتفرح ولا تهتم كثيراً لشرط المشاطرة: كل المنافذ ستشترط أن تشاطرك المبيعات مناصفة. وترضى بنصف سعر البيع الذي لا يكاد يغطي تكاليف الطباعة، ناهيك عن جهدك التأليفي الذي ليس له أي اعتبار ولا مردود يذكر. وتصدمك الحقيقة المرة، الكتاب سلعة استهلاكية بامتياز: عرض وطلب، تسعير وتسويق، بيع وكساد!!
لا بأس، تقول في نفسك، المهم أن يصل الكتاب إلى القراء. وقد يسعدك الحظ فتتولى جهة ما دعم كتابك بأخذ نسخ منه تشجيعاً لك، وهذا أمر جيد ومهم للغاية، ففي تلك الخطوة إعانة رائعة مادية ومعنوية. لكن توخي الحذر، ففي معظم الأحيان تنتهي النسخ المدعومة في مخازن ما تحت الأرض، بعيد جداً جداً عن أعين القراء، وقريب جداً جداً من الغبار والفئران.
ثم يجود عليك الزمان وتقبل مكتبة مرموقة عرض كتابك للبيع، فتأخذ منك كمية محدودة وتضعها على أرففها فيرتاح قلبك أخيراً. وتزور المكتبة لتنعم برؤية كتابك معروضاً، وتشعر بالزهو والسعادة حين تجده مزنوقاً بين كتب لأصحاب أقلام مرموقين، جنباً إلى جنب دون تمييز. ثم تفيق من النشوة العابرة حالما تتذكر خط سيرك الذي أوصلك لكتابك، وتكتشف أن المكتبة تقابل روادها في المدخل وفي الدور الأرضي بالأدوات المكتبية والملفات والحقائب وحتى الكمبيوترات وأدوات الرسم وغيرها من الفنون، بل وبالمجلات وأشرطة الفيديو! الحقيقة أن مرتادي المكتبات في العموم لا يسعون للكتب ويدخلونها فعلاً لشراء ما سبق ذكره من بضائع مكتبية، لكن المكتبة بدلاً من أن تستغل انجذاب المشترين لتلك البضائع وتضع الكتب في طريقهم حتى تجبرهم على الاطلاع وربما الاقتناء، فهي تختار ألا تزعجهم بأشكال الكتب وتبعدها عن طريقهم وتسهل طريق الوصول إلى مبتغاهم من الأجهزة والأدوات والآليات المكتبية، وعلى محبي الكتب تحمل المشاق والولوج إلى الأماكن البعيدة والصعود إلى الأدوار العلوية شبه المهجورة للحصول على الكتب.
ثم تصدمك حقيقة أخرى، فالمكتبة تعرف أن هناك سبلاً متبعة لترويج الكتب ومساعدة المشتري على اختيار ما يروقه، لذلك فمسألة التصنيف والترتيب حيوية، وبالأخص طريقة وضع الكتب الأكثر رواجاً أو الكتب التي وصلت حديثاً. لكن المكتبة لا تفعل ذلك، ولا أعرف لهذه اللحظة ما هي صعوبة وضع قائمة في المدخل تساعد على معرفة تلك الكتب الأكثر مبيعاً وحديثة الصدور. ولكن الذي يغيظ أكثر أن المكتبة قد تضع أرففاً خاصة للكتب التي وصلتها حديثاً من الخارج باللغة الإنجليزية، بينما القسم العربي لا يفعل ذلك إلا فيما ندر!
أتريد أن تعرف نوعية ذلك الذي ندر؟ حسناً.. هي تلك الكتب التي تقوم المكتبة نفسها بطباعتها ونشرها. هذه هي الصدمة الثالثة للكاتب الذي يفاجأ أن منافذ البيع هي أشد منافسيه ضراوة، فالمكتبات الكبرى اختارت أن تستغل منافذها لنفسها وتخصصت في نوعين من الكتب لا يخيب: الكتب الدينية وكتب مساعدة الذات وتطويرها. كل حماس المكتبات منصب على مطبوعاتها الخاصة، وهي تضع أرففها في مدخل قسم الكتب وتصنفها كأفضل المبيعات وتتابع وصولها وتعلن عنه أولاً بأول.
ثم هي إن شاركت في معارض الكتب على المستوى المحلي أو الخارجي فإنما تشارك بكتبها هي ولا تحمل معها أي من الكتب التي أوكل إليها مهمة توزيعها. كتابك أنت عزيزي الكاتب سيبقى محشوراً بين الكتب لا يعلم عن أمره شيئاً سوى عينك الباحثة عنه بالذات، أما المشتري العابر فأغلب الظن أنه لن يلمحه. وبالتالي تتساءل لماذا لا تعلن المكتبة في الصحف عن الكتب التي بحوزتها؟ إعلان؟ المكتبة تعلن بشكل دوري في أركان الصحف، بل ومن خلال مطبوعات ملونة وفاخرة تصاحب الصحف، لكنها تعلن مرة أخرى عن الأدوات المكتبية والكمبيوترات وما تطبعه هي وتنشره لحسابها الخاص، أما كتابك أنت فلا تحلم أن تصرف المكتبة قرشاً واحداً لمصلحة مبيعاته. وتتساءل آلاف المرات: أليست المكتبة شريكة في الربح؟ ألا يكفيها الـ50% التي تقتصها من سعر البيع؟ لا جواب!
في أحيان كثيرة تتلقى هاتفاً من مدير مبيعات المكتبة يطالبك بالحضور لاستلام باقي النسخ التي أرهقت مخازنها وأرففها دون أن تباع. وتذهب مكتئباً لتستلم النسخ وتضيفها للكراتين المكدسة في بيتك وتحتار أين تذهب بها، فقد انتهيت مبكراً من توزيع النسخ الخاصة بالأهل والأصدقاء والمثقفين والنقاد، فكل من عرف أنك أصدرت كتاباً انتظر أن تهديه نسخة مجانية، ورغم كل هذا التوزيع الكريم فإن أصداء الكتاب لا تكاد تُسمع! وتتساءل آلاف المرات: هل يقرأ أحد لأحد؟ أم أن محبي الكتب مشغولون بقراءة أعمالهم الخاصة دون الآخرين، تماماً مثل المكتبة التي تنشغل بتوزيع كتبها دون كتب الآخرين؟
بعد كل هذا الإحباط تستغرب من توقعات الساحة المحلية أن يجد الكتاب السعودي موقعاً على قوائم الترشيح للجوائز الكبرى مثل بوكر. كيف سنصل إلى الخارج ونحن نفتقر إلى الاهتمام التسويقي الذي سيعطي الكتاب فرصة النجاح الجماهيري؟ كيف سيلتفت النقاد في الخارج إلى المنتج الذي لم يواكبه أي تقدير في الفضاء المحلي، كيف والناشر لا يقدم الكتاب بصورة جيدة ولا يعلن عنه ولا يدشنه ولا يرشحه لأي جائزة مثلما يحدث في دور النشر العربية؟
كتابك أيها المؤلف سيتنقل من زنقته في الكراتين إلى انحشاره على الأرفف، ثم يعود مخنوقاً إلى ذات الكراتين. من يعرف منكم رحلة أسهل وأجدى للكتاب المحلي، فليكتب وينوّر الطريق لغيره من تعساء القلم، وإلا فهذا نداء مكتوم لدور النشر المحلية ومؤسسات التوزيع أن تنظر من حولها وتتعلم ما يفعله العالم في هذا المضمار وتضطلع بدورها في تنوير المجتمع وتثقيفه، أما أن ننادي بأهمية القراءة ونشجع على اقتناء الكتاب، ثم نصعب طرق الحصول عليه، فذلك أمر فعلاً محبط !
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com