لم يمضِ على افتتاحِ عيادتي الريفية سوى بضعة أسابيع، لم تكن كافيةً لأنْ أمتلىء ثقةً مثلما هُمُ الأطباء عادةً. لكنّني كنتُ قد تجاوزتُ رهبةَ الانتقال إلى الممارسة العمليّة. ليس هذا بالقليل طبعاً!
عيادتي الأولى هذه كانتْ في بلدة «تل أبيض» الواقعة على الحدود التركية. بلدةٌ صغيرة. ناسُها ريفيّون بطباع مُتناقضة، تجمع بين البساطة والمزاح الدائم، وبين نوعٍ من الحذر تجاه الموظّفين والمتعلّمين القادمين من المدن.
لسوء الطالع ذات مساءٍ، انقطعتِ الكهرباءُ، وهي كثيراً ما كانت تنقطع، وما زال لديّ بعضُ المرضى. ولأنّ الريفيين متعجلون أبداً، فقد اقترحوا عليّ معاينتهم على ضوء الشموع. كان الأمر بالنسبة لي غير مقبول، لكنّني كنتُ آنذاك سهل المراس مُتردّداً في قراراتي، مما دفعني إلى القبول، خصّيصاً أنّ الجميع يعلم أنّ الكهرباء قد لا تأتي حتى الصباح.
مرّت الأمورُ بسلامٍ إلى أنْ جاء دورُ المريضة الأخيرة، وهي امرأةٌ جاوزت الخمسين. عليكمْ أنْ تلاحظوا أنني كنتُ في الرابعة والعشرين. طويل القامة. نحيف. وشاربي ليس بالكثافة التي توحي بتقدّم العمر. باختصار لم تكنْ لي هيبة الطبيب.
استلْقت المرأة على سرير المعاينة. وكالعادة التي لن أغيّرها في قادماتِ الأيّام، رحتُ أستجوبُ المريضةَ بدقّة، وهي تتبرّمُ من أسئلتي التي كانتْ تبدو لها غير ذات جدوى. ثم بدأتُ الفحصَ، بعد أنْ علمتُ أنّها تشكو من ألمٍ ناحيةَ الكبد. هنا عليّ أنْ أجسّ الكبد، وأُحدّد حافّته لأعلمَ إذا ما كان مُتضخّماً أم لا، وعليّ أنْ أطلبَ من المريضة أنْ تسحب نفساً عميقاً وتحبسُهُ، بينما أدفعُ أنا أصابعي بلُطفٍ تحت حافّة الأضلاع، تماماً على النقطة التي تُسمّى «نقطة مورفي». بمناوراتٍ عدّة استطعتُ أنْ أُحدّد أنّ المريضة تتألم من هذه النقطة بالذات، مما يعني أنّها مصابةٌ بالتهاب المرارة أو بحصاة فيها.
قلتُ متعجّلاً:
الأمر بسيط... التهاب في المرارة أو حصاة... سأكتب لك دواءً، ستتحسّنين عليه إنشاء الله... لكن إن لم تتحسّني، سأحيلك إلى المدينة كي تُجري صورةًَ للمرارة.
لاحظتُ بانزعاج أن المرأة نفضتْ يدها بحركة تدلّ على استهانة وعدم تصديق. أعدتُ الكلمات ذاتها مُشدّداً على اللفظ الصحيح، توكيداً وتخميناً منّي أنّها لم تسمعْ جيّداً أو أنّها لم تفهم. لكنها باغتتني:
لكنّني بلا مرارة بلا مرارة يادكتور! أنا عملتُ عملية جراحية للمرارة منذ عشر سنوات.
كان ضوء الشموع يتراقصُ واهناً على بطن المريضة، وفعلاً لاحظتُ خطّ العملية واضحاً ذا لون فارقٍ عن مساحة الجلد، فأُسقِط في يدي. وانتابتني حالةٌ عنيفة من لَوْم الذات. لماذا لم أدقّق بنظري؟ لماذا نسيتُ أحد أهمّ وسائل التشخيص التي تعلمتُها أي ما يسمّى «بالمشاهدة» ويعني التحديق بالعينين؟
طبعاً يمكنني أن أبرّر أما زملائي الأطباء أنّ جُذْمور المرارة، أي المتبقّي من القناة المرارية بعد العمل الجراحي، يمكنُه أن يولّد ألماً يشبهُ ألمَ المرارة، ويعطي علامةً إيجابية في نقطة «مورفي». لكنْ تعالَ أقْنعْ امرأةً لا مرارةَ لديها، وأنتَ قدْ تورّطتَ وشخّصتَ لها بكلامٍ واضح، بلْ وأعدته مرّتين، أن مرارتها مريضة! تعالَ إقْنعْها بجذمور المرارة وألمه! وتصوّرْني في ذاك الوضع أتلعثمُ وأتعرّقُ وأنا أشرحُ بكلماتٍ علميّة لامرأة لم يكن لديّ شكّ في أنّها ستمزّقُ الوصفةَ ما إنْ تخرج من العيادة.
- أوسلو