العلم والإيمان، الحظ والجهد، المثالية والواقع، وغيرها الكثير مما ينتجه التفكير الثنائي تمثل اليوم سياقا مهما في تشكيل مختلف الآراء الاجتماعية سواء حول الجديد أو القديم في واقع حياتنا.
وإذا ماكانت حرية التعبير عن الرأي هي البذرة التي نعول عليها في التغيير الاجتماعي في هذه المرحلة المهمة لنا كمجتمع يكتشف نفسه والعالم في وقت واحد، فإن هذا الرأي الذي نندفع للتعبير عنه عليه أن يكتشف مايحكمه قبل أن يبدأ في إطلاق الأحكام.
يفترض أن الرأي يختلف عن الانطباع بأنه يتشكل عن سبب ما يدرك من قبل صاحبه، بينما الانطباع فهو إحساس أكثر منه فكرة وهو يتشكل عن سبب غير مدرك غالبا، ورغم أن ليست كل الأسباب التي تشكل الآراء هي أسباب منطقية إلا أنه يفترض في حدها الأدنى أن تكون مقنعة لصاحبها.
ولأن كثيرا من الآراء التي نعتقد أنها آراؤنا الشخصية هي آراء متوارثة ومشتركة بين أفراد المجتمع الواحد، فإنه من الصعب تحديد الأسباب من وراء آرائنا دائما، ولهذا تبدو آراء عصبية إلى حد ما من حيث العجز عن إثباتها على مستوى السبب عدا عن الخوف من انهزامها أمام آراء أخرى جديدة تتمثل عن قناعات واضحة ومدركة وحرة. وحرية التعبير لا تعني بأي شكل حرية التفكير، وفي واقعنا اليوم لازلنا نمر بالمرحلة الأولى من القدرة على التعبير الحر، لهذا يبدو اعتزازنا بالرأي الذي نقوله أكثر من اهتمامنا بالتفكير فيه، ولهذا أيضا يبدو اختلافا خلافا، لأن حقيقة عدم قبول الرأي الآخر لاتقوم دائما على رفض هذا الآخر كشخص ولا حتى رفض حقه في التعبير، إنما للعجز عن إدراك الأسباب التي شكلت هذا الرأي وربما الخوف من إدراكها أيضا، ومن البديهي أن الذي لايعرف السبب من وراء رأيه الشخصي لن يبلغ أسباب الآراء الأخرى.
المسألة إذن لا تتعلق فقط بحرية التعبير والحق الشخصي في الاختلاف بالرأي، إنما ثمة قاعدة لكل هذا تتأسس عليها مفاهيم الحرية، والتعبير، والحقوق والواجبات، إنها بمثابة الأرض التي نحصد ثمارها دون أن نعرف كيف نبذرها، ولهذا التوقف عند السياقات التي تشكل الآراء الاجتماعية من ضمنها الثنائيات هي محطة مهمة نحتاجها على مستوى الوعي الفردي قبل أن تكون فاصلة رئيسة في هذه المرحلة التي ابتدأها المجتمع لأجل التغيير.
والتفكير الثنائي هو ليس سياق يتحكم في آراء المجتمع السعودي فقط، إنه فكر عربي وإسلامي أصيل له تاريخ طويل جدا في تشكيل كثير من الآراء الحادة والعصبية اجتماعيا وسياسيا ودينيا، ولعل مثال القومية والدين (عروبة وإسلام) من أكثر الثنائيات التي أشكلت على مختلف المستويات فكان الاختلاف حول نهوضنا وسقوطنا الحضاري ليس خلافا على قراءة التاريخ فقط، بل خلافا نشهده يوميا حول القوانين المدنية للبلدان العربية فتبدو مراعاة القومية من حيث اختلاف الأديان تشكل رفضا للإسلام عند البعض، ولهذا وذاك لازالت القطرية كما لوكانت نقيصة لا واقعا نعيشه ونحيا على مكاسبه.
أما على المستوى المحلي فإن الثنائيات لازالت تهدر الكثير من الوقت وتضغط على الواقع مثل العصامية والواسطة أو الخصوصية والعولمة، وإن لم يكن للقومية حضور قوي يشكل ثنائية في البلد أمام الاسلام، فالوطنية تحضر كطرف ثاني في هذه الإشكالية لدى بعضنا، هي الأممية والوطنية بوصف آخر، ولأن التفكير الثنائي هو الذي يحكم الكثير من آرائنا التي نفتقد الأسباب فيها ونندفع في التعبير عنها دون إدراك ماورائها، فإنه من المفترض والأجدى أن نفرق بين فئتين، الأولى فئة تمثل قناعة راسخة بأن لا للوطن نعم للإسلام، لأنها لاتعتبر نفسها منا وتنكر وجودنا على الخريطة تماما كما تنكره في تفكيرها، وبين فئة أخرى تنطلق أيضا من ثنائية الإسلام والسعودية وتتمثل في الآراء العامة التي استنكرت تحالف الوطن مع دول غير إسلامية باسم السياسية، ولعل في الرأي الرافض للحضور الأمريكي بقواعد عسكرية مثال لرأي عام لا يدرك سببه الحقيقي في الرفض، لأن القول المتكرر بأن الوطن يحالف عدوا في حربه مع المسلمين أثناء الحرب على العراق عام 2003 لم يقال في أوائل التسعينات الماضية حين رحب بنفس العدو وبقواته لدحر المسلمين العراقيين من وطنه.
التفكير الثنائي لا واعي ينتج الرأي دون أن يقنع، أي أن الرفض والقبول هنا أخذ صبغة دينية متوهمة نتيجة ثنائية مغلقة، بينما في حقيقة الفكرة المصلحة النفسية هي القاسم الحقيقي في مثال القواعد العسكرية الأمريكية، حيث رحبنا بها للدفاع عن أنفسنا وقت الغزو العراقي للكويت، وبينما حين كانت مصلحتنا النفسية لا ترضى الاعتداء على جارنا العراق لم نتردد في تخوين أصحاب القرار بأنهم أبدوا ولاءً للعدو، دون أن ندرك طبعا أن مصالحنا النفسية تغيرت بينما حقائق واقعنا لم تتغير من أننا محل تنفيذ شرط سياسي لا محل اشتراط.
هل يفترض من إدراك التفكير الثنائي في هذا المثال أن نرحب بالهجوم على العراق وقتها؟ حتما ليس هو المغزى، إنما التخوين الذي على صوته تجاه المسؤولين الذين اتخذوا القرار والمدافعين عنه من أصحاب الرأي هو مايفترض التراجع عنه، لأن التفكير الثنائي مغلق على نفسه يضطر صاحبه على التزام مواقف ازدواجية مربكة وعاجزة عن الاحتمال معطلة عن الافتراض، فهو تفكير أحادي في حقيقته، ثنائي في شكله فقط.
مشكلة الثنائية في كونها تأسس لفكر الضدية، فالإيمان بأحد طرفيها يعني أنه يضاد الطرف الآخر تلقائيا، ولهذا يسهل أن نتعصب لرأي ما قبل أن نسمع الرأي الأخر، لأننا وعلى غير وعي نسلم مسبقا بأنه سيكون ضديا لنا، وهي ضدية لا تحمل اختلاف رأي فقط، بل هي حالة متكاملة من الفكرة والشعور وربما والسلوك أيضا.
التفكير الثنائي لا يحتمل إلا فرضية واحدة تشكل مسلمة هي الضدية، والفكر الذي يريد أن يغير من الحياة والواقع عليه أن يماثله في التعقيد والانفتاح على الاحتمالات، عليه الايمان بأن اللحظة الواحدة تخلق حقيقة جديدة وتكشف أخرى غائبة فتتجدد الاحتمالات معها وتتعدد الافتراضات حولها، عليه أن يدرك مسبقا أن الحكمة تتعالى على الزمن ولا تسبقه، بينما الحقيقة تسابقه ولا تتعالى عليه..
- الرياض