أليس الطموح هو سراب الزمن المعاصر الذي من شأنه أن يزجّ بمعتنقيه في أتون الهلاك ؟ وتماما كما أن سراب الماء يودي بحياة رجل الصحراء شديد الظمأ وهو يخادعه، ألا يكون للطموحات الراهنة الصنيع ذاته ؟ أما يقلّنا سراب الطموح المخاتل صوب حافة الهاوية، حيث نلاقي حتفنا على قارعة طرقات المدينة السريعة واللاهثة المفضية إلى وجهات الطموح، جريا وراء الأحلام الوردية ؟
في خضمّ عدْوِنا الحثيث للقبض على طموحاتنا، ننصرف عن حقائقنا، ونخوض صراعا كريها مع الحياة، ونوافي أفرادا لا نؤمن فيهم بالضرورة، وربما نزاول أعمالا نمجّها في دخائلنا، فقط لأجل الظفر، ونعتمر أقنعة بتلاوين شتى، ونهدر أرطالا من أوزان مبادئنا، مثل عدّاء دؤوب. وتلكم هي الطموحات: تغتال بساطتنا، تسلب منا بهجتنا البريئة، تختلس رفاهتنا في الحياة، تجْهز على نصاعتنا أيما إجهاز، وتحيلنا إلى كائنات أنانية لا تعبأ بالآخرين، ولا تلقي بالاً للصداقات، وإنما مضخات مكرّسة تعمل وفق مبدأ الطرد المركزي، وتبعث على الضجر والازدراء.
وفي معمعة السجال المحموم هذا نجافي مساقط رؤوسنا، ونغذ المسير بعيدا عن آلنا، لا لشيء عدا عَرَض من الدنيا قليل. وهكذا رويدا رويدا يمضي بنا دولاب الأيام، في غضون لهونا عن الفكرة الأشد خطرا وجلاءً: أن الحياة أقصر وأسرع وأجمل كثيرا مما نظن، وربما لم يستحق الأمر كل ذاك العناء. ولن نلبث إلا يسيرا، وإذ بالحياة قد شارفت على النفاد، وقد بتنا قابعين في آخر المحطات المسماة (خريف العمر)، وقت أن يتبين لنا أن كافة القطارات قد غادرت أو آذنت بالرحيل، وما تبقى لنا غير الذكريات.
ولكن على الضفة الأخرى أحقا ينضوي الناس الذين بلا طموحات ضمن الأسعد من بين أناس هذا الزمن المحتدم ؟ ألا تكمن بليّة أولي الطموحات في أنهم لا يحسنون الاستسلام والعزوف عن السؤدد ؟
ماذا زفّ الطموح لأهله ؟ أما زفّ لهم داء القولون، وارتفاع ضغط الدم، وعلل القلب، والاكتئاب، والقلق، والأوبئة الخبيثة، وسائر ما توصم بأمراض العصر؟ أم أنه – في حقيقة الأمر - أهداهم الفلاح والعز والرفعة ؟ ولقاء ما نالوا، أيّ كلفة ساقها أولئك الذين نالوا بغيتهم ؟ وأي حياة كابدوا ؟ هل استوفى الطموحون الناجحون نصاب السعادة والرضوان كما قالوا ؟ أم أنهم -خلاف سواهم- يدثّرون عراء الداخل بمساحيق النجاح المختلَقَة ؟ ألا ننبهر بالعَطِر من سِيَر الطموحين الذين ملأوا الدنيا جلبة، ونتوق إلى السطو على نجاحاتهم وتجييرها لصالحنا، ثم حين تتبدّى لنا الأثمان الباهظة التي تحصّلوا عبْرها على ذلك نتنصل من هكذا طموحات ؟
أيّ الفريقين في عيشة راضية: فلاح الريف البسيط الذي يجد متعة يومه، ويجلس عشيةً إلى موقد النار خاصته، بمعية رفاقه الذين يسكب لهم قهوة السمر، ثم يلتهم عشاء سائغا يتلوه سبات هنيء ؟ أم رجل الطموحات ذاك الذي تطوح به آماله الباذخة بمنأى عن مراتع الصبا وصحبة الوالدين ورفاق الطفولة، فيدرك المجد، أو تتخطفه يد المنون ؟ ما الأكثر وجاهة: تعريف السعادة على أنها لا شيء سوى الحياة دون طموح، أم أنها الحياة المكللة بالإنجاز ؟
وماذا عن الذين يحرّضون الجماهير على الكد، ويحقنون فيهم فيروس المنافسة مؤججين إياهم: «خلّفوا أثرا لكم في هذه الحياة، وإياكم ومعيشة الهامش»؟ أمِنَ المنصف نعتهم بالمتبرعين الأسخياء الذين - بالمجان - يمنحون البريّة التوتر والشقاء ؟ أم أنهم مصلحون على دروب الخير ؟ هل حقا نحن مكلفون بالتميز وطباعة البصمات الفريدة على أوراق الحياة، كما يشاع ؟ أم أن توخّي الدعة وهناء البال هما الحكمة من وجودنا في هذا الملكوت ؟
في (الهوية)، يعزز ميلان كونديرا هذا الصراع السرمدي فيدوّن:»ليس التخلي عن الدراسة فشلا. ما تخليت عنه آنذاك كان الطموحات. كنت فجأة رجلا دون طموحات. ولمّا أضعت طموحاتي وجدت نفسي، فورا، على هامش العالم. وهناك ما هو أسوأ: لم يكن لدي أي رغبة في أن أجد نفسي في مكان آخر. وقللَ من رغبتي أن أي بؤس لم يكن يهددني. لكن إذا لم يكن لديك طموح، إذا لم تكوني نهمة إلى النجاح، إلى أن يُعترف بك، فأنت تقيمين على ضفة السقوط. وقد أقمتُ هناك، ولو كان ذلك براحة تامة. ولكن هذا لا يمنع أني أقمت على ضفة السقوط. فأنا، إذن، دون مبالغة، في جانب هذا المتسول وليس في جانب صاحب هذا المطعم الفخم الذي استمتع فيه كثيرا». فما عسى أحدنا أن يختار ؟
- الرياض
ts1428@hotmail.com