ربما كان صاحبكم من أوائل من علِموا باستقالة الدكتور عبد الله الغذامي من الهيئة الاستشارية لجائزة الشيخ زايد للكتاب صبيحة السبت الفائت، وقدرتُ أنه الأبيُّ لا يرضى غيرَ الإباء، في وسطٍ يقرأ بعضنا فيه العناوينَ مقلوبة؛ فالغذامي الذي سُرق كتابه آثر الهدوء بعيدًا عن لجان التحقيق كيلا يكون للأنا حضورٌ، وصمت عن السارق لئلا يسيء له فوق ما هو فيه، ولم تُهِمه مكاسبه المضمونة في قانون الملكية الفكرية، ونأى بجانبه عن «القيل والتقول»؛ فكتب استقالةً ستلتفت إليها أدبيات النفس والدرس ذات وعي لا يسكنه المزايدون.
سأله بألم: لِمَ يا أبا غادة؟ فنحن نعلم ألا دور للهيئة الاستشارية في تمرير عمل للفوز بقدر ما هو وزن آراء المحكمين الثلاثة الذين لا يعرفون بعضهم ولا ينتمون بعلاقة للمرشحين، وقد فاز الكتابُ القضيةُ بصوتين، والأَوْلى مساءلة صاحبيهما، وأنت مجني عليك في السطو بدءا والخلط ثانيًا، والمنصفون بل والحاسدون يرون فيك العالِم النقي؛ فلم تسعَ لمنصب، ولم ترض بمكافآت، ووقفت جهدك بعد تقاعدك دون مقابل لطلبة الدراسات العليا، ونعرف يقينًا أن افتئات صحفي وكاتب ومتحيز لن يُحرّك شعرةً في مفرقك الذي صمد للأعاصير والبراكين والاستعداءات طيلة أكثر من ربع قرن فكيف تتوارى من إيماءة رياح عابرة؟
أجاب: لم يعد الصدقُ منجاة. ثم روى حكاية معروفة بشخوصها لرجل حل ضيفًا على تاجر فأعطاه مفتاح دكانه لينام فيه وبعدما غادره في الصباح اكتشف التاجر سرقة بعض ماله فأرسل في أثر الضيف الذي لم ينكر السرقة رغم أنه لم يفعل، وقام بجمع المبلغ ثم أعطاه التاجر الذي عرف لاحقًا أن السارق شخص آخر، وحين استفسر منه عن سبب عدم دفاعه عن نفسه قال إنه لو قام بذلك فلن يصدقه أحد.
نصدقك يا دكتور، ونؤمن بأنك نموذج نادر، وأن مثلك -في هذه المأساة الملهاة- مثل مسؤول نزيه يقصر موظفه الصغير في شأن عام فيقدم وظيفته قربانًا واعتذارًا، وهذا درسٌ إداري نتعلمه منك بعدما باتت الكراسي مسكونة بعقودِ تملكٍ مفتوحةِ الأمد ولو امتلأت بالأخطاء والخطايا.
لن تخسر بالاستقالة بل سيخسر سواك، وكما اكتشف التاجر فداحة اتهامه سيدرك الراقصون على حبال المصلحة والمفتونون بالخطوط المموهة أن «عبد الله الغذامي» وُلِد كبيرًا ليبقى كبيرًا، وليقدم لنا توأمة الشخص والنص في القضايا الأخلاقية بعيدًا عن موت المؤلف في النصوص الإبداعية، واستقالته موقف صلب يضاف لمواقفه المفصلية.
«إنها مشيئة الله فلعله أراد بي خيرًا أو أبعدني عن سوء». كلماته الأخيرة التي أقفلت حوارًا حميمًا لا تجرحه شهادة محب يرى قامةً شامخةً لا تنحني إلا لله.