من يتأمل كلمة معالي وزير الثقافة الدكتور عبدالعزيز خوجة في الجلسة الأولى من الدورة السابعة عشرة لوزراء الثقافة العرب في قطر سيلاحظ أن الخطاب اعتمد على ركيزتين، الركيزة الأولى أنه جاء مترجماً للخطاب الإصلاحي والتنويري المحلي الذي يتبناه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -.
والركيزة الثانية أنه جاء معبراً عن البرنامج الثقافي العالمي الذي يعتبر خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - عرابه، والذي يسعى إلى ترسيخ مبادئ التسامح الثقافي بين شعوب العالم من خلال برنامج حوار الحضارات وأتباع الأديان، وهو برنامج يهدف إلى صياغة استراتيجية للخطاب الثقافي المحلي والعربي قائمة على المحافظة على هوية الثقافة العربية وأصالتها وإحياء دورها النهضوي التاريخي، إضافة إلى الانفتاح على الآخر ورفع سقف التعددية وقبول الاختلاف والاستفادة منه، وهي القاعدة التي ثبّتها الدكتور خوجة في افتتاح كلمته التي أشار فيها إلى حرص خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - على أن تكون هذه الدورة حافزاً لتفعيل البرنامج الإصلاحي والتنويري الثقافيين الذي يتبناه - حفظه الله - على المستويين المحلي والعربي، والذي كما قال الدكتور خوجة يتطلب «خِطَابًا ثقافيًّا عربيًّا مُعَبِّرًا عنْ أصالةِ أُمَّتِنا ودَوْرِها في التَّاريخِ والحضارةِ». وبذلك يصبح هدف الثقافة العربية في المرحلة القادمة واضحاً، وهو صياغة «خطاب ثقافي عربي يعبّر عن أصالة الأمة العربية وإحياء تاريخها النهضوي وتفعيل دورها النهضوي المعاصر».
ورسمت كلمة الدكتور خوجة خارطة لمتطلبات الثقافة العربية في المرحلة القادمة انطلاقاً من هدفها الرئيسي وهو صياغة «خطاب ثقافي عربي يعبّر عن أصالة الأمة العربية وإحياء تاريخها النهضوي وتفعيل دورها النهضوي المعاصر»، وقد ركزت تلك الخارطة على نقاط، هي:
1- كان من الطبيعي أن تكون النقطة الأولى، التي حددها الدكتور خوجة مفتاحاً لخارطة استراتيجية صياغة الخطاب الثقافي العربي في المرحلة القادمة، إعادة التذكير بقيمة الثقافة العربية بوصفها مؤسسة لهوية الشخصية العربية وبانية لتاريخها ومرشدة لوعيها ومعينة على تخطيط وتفعيل إنجازاتها.
وإعادة التذكير بخصائص الثقافة العربية القديمة التي اتصفت بالتنوع والانفتاح على «ألوان الثقافات والفلسفات» والتفاعل معها، «فمنحت الإنسانية الحكمة والأدب والفن» فأصبح التراث العربي «تمثيلاً عميقاً للتنوع والاختلاف والتسامح»، كما اتصفت بالتعددية الثقافية من خلال «احتفاء المثقف العربي القديم بثقافات الأمم، والتحاور معها». وهذه التعددية لم تعنِ التذويب بل «التمييز» من خلال المحافظة على هويتها والإضافة للتراث العالمي، وهي خصائص كونت قيمها النهضوية؛ فسادت ثقافة الأمم في عصرها وهيأتها لقيادة «الفكر العالمي».
وقد استطاع المثقف العربي القديم أن يقدم نموذجاً عملياً لإمكانية التشارك في الميراث الثقافي الأممي والإضافة إليه، دون أن يمحو الآخر أو يتعصب لثقافته أو يقصي ميراثه الثقافي.
سعى الدكتور خوجة في كلمته إلى تثبيت أن العوامل التي مكّنت الثقافة العربية القديمة من قيادة الفكر العالمي، أي التعددية والتنوع والتسامح والتشارك الثقافي، استطاعت أن تقدم تنفيذات عملية لحقيقة وجدية «حوار الحضارات» و»تكامل التاريخ واستمراره» فكانت الثقافة العربية في ماضيها نموذجاً لاندماج الحضارات وتكامل التاريخ، وليس كواقع الثقافة العالمية اليوم التي ضاق بها الآخر وضاقت بالتعددية والتنوع فنودي بصراع الحضارات ونهاية التاريخ.
2- أهمية «القمة الثقافية العربية» وما قد تنتجه من أفق جديدة تأتي من أنها ستسهم في تطوير الثقافة العربية، وتهدف كما أكد البيان الختامي لهذه الدورة إلى «صياغة أهداف رؤية مستقبلية وتوفير الدعم للمؤسسات الثقافية والمبدعين والكتّاب العرب والارتقاء بالإبداع الثقافي العربي في مختلف المجالات». وأعتقد أننا في الوقت الحالي لا نملك سوى مشاركة معالي الوزير الدكتور خوجة تفاؤله، وموافقتنا على ما نص عليه البيان الختامي فيما يتعلق بالقمة الثقافية العربية؛ حتى نرى ما سينتج عن القمة بعد انعقادها من قوانين ثقافية ترسخ عملياً الرؤية المستقبلية للثقافة العربية.
3- وظيفة الثقافة ودور المثقف، وهي النقطة الأخيرة التي استفاض فيها الدكتور خوجة. فوظيفة الثقافة ليست ترفيهية، وإنما هي نشر الوعي بقيم العقل الثقافي، أي الحرية والمساواة والكرامة، وهي القيم التي ارتبطت بتاريخ النضال الثقافي العربي بدءاً من الشيخ رفاعة الطهطاوي وصولاً إلى الدكتور الجابري.
كما أن الثقافة ليست كائناً نخبوياً، بل هي نظام معاشي كائن واقعي جماهيري تفاعلي نضالي، يأكل كما يأكل الناس، ويمشي في الأسواق؛ ولذلك تظل الثقافة كائناً نضالياً يسعى للتطوير والإصلاح والتغيير؛ ولذلك فهي كما يقول الدكتور خوجة: «مكابدة شاقة من أجل أسمى القيم الإنسانية».
وأهمية دور المثقف مستمدة من وظيفة الثقافة، وتعبيره عن هموم الناس وقيمة مشروعه الثقافي الدافع لتقدم «المجتمع ورفاهيته». واللافت في هذه النقطة هو ربط الدكتور خوجة الثقافة بالسياسة باعتبار أن الثقافة هي صوت السياسية، أو كما قال الدكتور خوجة «أسئلة الثقافة لو تأملناها هي أسئلة السياسة»، وهذه النقطة لها أهميتها؛ لأنها أولاً تعبر عن إمكانية مصالحة بين الثقافة والسياسة العربيتين أو هكذا أحسب بعد أن كانت السياسة بالنسبة للثقافة تابو ممنوع الاقتراب منه، وتعني ثانياً إمكانية مشاركة الثقافة في صناعة القرار السياسي الجماهيري العربي، وتعني ثالثاً إمكانية رفع سقف الحرية الثقافية ودعم الديمقراطية الثقافية في البلدان العربية، وهو ما أكد عليه البيان الختامي لهذه الدورة الذي أكد حقوق حرية الفكر والديمقراطية في البلدان العربية.
فهل سنشهد المرحلة القادمة زواجاً شرعياً بين الثقافة والسياسة العربيتين ينهي تاريخ العداوة القديم والطويل بينهما والتوجس والتجسس وتوقف سلسلة الثأر الدائمة بين المثقف والسياسي العربيين؟
وفي ختام كلمته أعاد معالي الوزير الدكتور خوجة التأكيد على ضرورة إحياء خصائص الدور النهضوي للثقافة العربية القديمة من تعددية وتنوع وتسامح ومشاركة في المنجز الثقافي العالمي بالتفاعل والإضافة، وتطبيق تلك الخصائص على الثقافة العربية المعاصرة، وهو ما أكد عليه البيان الختامي من ضرورة «التفاعل مع العصر والتفاعل الإيجابي مع الفكر الآخر» لتحقيق ذات المكتسبات التي حققتها الثقافة العربية القديمة، ولتفعيل إيجابية شخصية الثقافة العربية التي ضمنت لها في الماضي دوراً نهضوياً بين ثقافات الأمم.
كما تضمنت الخاتمة ضرورة قيادة الثقافة العربية لبرنامج يدعم المحافظة على هوية المجتمع العربي وحماية أصالته من الغرق في أمواج العولمة، وفي نفس الوقت قيادتها للوعي للتمييز بين التعصب الثقافي والإقصاء والتمسك بهوية الثقافة وأصالتها، والتمييز بين محو الهوية والتنوع الثقافي والمشاركة في تجربة العقل الثقافي العالمي.
فالثقافة في رأي الدكتور خوجة تظل الطريق الآمن لوقاية الأجيال العربية القادمة من «أخطار الامحاء والذوبان»، وهو ما أكد عليه البيان الختامي من ضرورة قيادة الثقافة العربية برنامجاً توعوياً لحماية الأطفال والشباب من «سلبيات مجتمع الإعلام من صناعة الإثارة إلى نشر الخرافة».
وهي - الثقافة - طريق كما قال الدكتور خوجة «بناء الروح والإنسان»، وهي وسيلة «التسامح والتنوع»، وهي أخيرا «كلمة للتفاهم فيما بيننا وبين مثقفي العالم».
ورغم أهمية كلمة معالي الوزير خوجة التي رسم من خلالها استراتيجية خارطة الثقافة العربية في المرحلة القادمة انطلاقاً من الخطاب والبرنامج الثقافيين المحلي والعالمي اللذين يتبناهما خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - إلا أنني أعتب على المثقف الوزير الدكتور خوجة؛ فعندما ذكر دور المثقفين العرب في تطوير الثقافة العربية بدءاً من رفاعة الطهطاوي وصولاً إلى الجابري غاب المثقف السعودي عن قائمة استشهاداته!
ولا أدري لماذا؟
هل لأنه يرى أن ليس هناك مثقف سعودي استطاع أن يحمل حتى الآن راية التطوير الثقافي؟
أو «قاتل الله السهو والنسيان»؟!
مع أن عندنا في الثقافة السعودية مثقفين نفتخر بهم أمام الشعوب العربية، عندنا الدكتور عبدالله الغذامي والدكتور غازي القصيبي -رحمه الله - والدكتور سعد البازعي والأستاذ عبده خال، كما عندنا الدكتور عبدالعزيز خوجة أيضاً.
و «العتب من المحبة» كما يقولون يا معالي الوزير.
sehama71@gmail.com
جدة