3- القصة وتربتها الخاصة
لأن «كاتب القصة القصيرة -كما يقول محمد خضير- يحتاج إلى دافع خاص به، دافع محليّ، دافع أكثر التصاقاً بشخصيته وتطابقاً مع صفاته.. (لذا) فإن شرط القصة القصيرة ارتباطها بتربة خاصةٍ بدرجة حرارة ملائمة، بباطنية سيميائية، وطوية شخصانية»، وذلك ما وجده عبدالعزيز ملتصقاً بكيانه النفسي والثقافي في عالمين متناقضين ينتمي أولهما إلى عالم مفعم بجمالية استعادة حياة تشبه التاريخ فيما هي مهددة بالاحتضار المطبق على أزقة القرى وفضاءاتها، وثانيهما عالم المستشفيات الذي ينتمي بتقنيته إلى أفق الحداثة فيما يقود في تفاصيله إلى ما يهدد الحياة بالانقراض.
موت القرية
ينتمي عبدالعزيز (من مواليد 1375هـ) إلى جيل يمكن النظر إليه كجيل مفصلي عاش نمط الحياة القروية التقليدية في طفولته -كما عاشها أشباهه منذ مئات السنين- ثم مد قدميه في مياه الزمن ليرى صباه يتشكل في مزاج حاضنة متغيرة أخرى وليشهد -مع جيله وأجيال سابقة له ولاحقة- أضخم عملية تحول في تاريخ القرى حين دخلت مع المدينة في عملية تبادل وصراع تجاري وبشري انتهى بعدم قدرتها على المحافظة على أجمل ما تدخره من قيم المعيش القروي المنفتح على حقوقية التعبير وحضور المرأة، ثم بعجز تلك القرى عن منافسة المدينة في إنتاج الخيرات والمهن الوظيفية الكافية لإغراء أبنائها بالبقاء في أحضانها.
وقد خلفت هذه التحولات آثارها الجذرية على حياة القرية، حيث بقيت خارج العصر في مراحل التغيرات الأولى مما جعلها تعيش في فراغ زمن راكد، وهذا ما حدا بعبدالعزيز لإرسال رسالة إلى في أوائل عام 75م من قريتنا المشتركة محضره يشكو فيها عطالة الحياة وجفاف ينابيعها هناك ويستصرخني في البحث له عن عمل في جريدة اليوم. وقد تم ذلك بمساعدة الأصدقاء، ولكن المدينة لم تكن حلماً يُسكب في الأقداح بل كانت فضاءً دبقاً يلتهم الغرباء الذين تيتموا بفقدان حنان القرى وبالضياع في أزقة المدن البائسة بحثاً عن مأوى ولقمة كفاف -في بداية سنوات الطفرة التي شهدتها بلادنا منتصف عقد السبعينيات- حيث عمل بوظيفة محرر متعاون في الجريدة براتب لا يتجاوز الثلاثمائة ريال.
وهكذا بدأت أولى المفارقات النفسية والوجودية في حياته بمواجهة صدمة الاغتراب في شوارع المدينة، والافتقار إلى دفء المحيط الاجتماعي والقروي، كما كان عليه أن يستكمل عدة الكاتب بالقراءة، ولقمة العيش بالعمل، ومأوى البدن بالسكن في غرفة بائسة مهجورة في حارة الكهرباء بالدمام يتقاسمها مع بعض الأصدقاء ويشاركهم فيها جيشٌ من الفئران والصراصير.
وفي مناخ كهذا لم تكن مضامين الكتب المتاحة له للقراءة اقل قسوة من تفاصيل معاشه الجديد، فانهمك في قراءة» اللامنتمي، وضياع في سوهو» لكولن ولسون»، والوجود والعدم وثلاثية رواية دروب الحرية « لسارتر»، وغريب « كامو» وكوابيس « كافكا» وبعض ما يدخل في نسقها من كتابات عربية ليوسف إدريس ومالك حداد وزكريا ثامر ويحيى الطاهر عبدالله، وسواهم.
يقول في قصة «الدمعة والحظ الهارب»:
إنك في قاع المدينة
إنك لم تعثر على حظك
اقطف دمعة من قلبك
اقطفها ولفها في منديلك
اقطفها والقها تحت الأقدام
إنك في قاع المدينة
المدينة... المدينة!
وهكذا يواجه في حياته الجديدة مفارقة انكسار وعود الشهب الخادعة في سماء المدينة. مدينة التقدم المادي اللاعقلاني، حيث يمكن القول بأن لسان حاله آنذاك يتفق مع ما ذهب إليه «ميلان كونديرا» من أن مرحلة حلم الإنسان في الارتقاء إلى مرتبة سيد الطبيعة ومالكها قد تم تجاوزها بدخول «المدينة» مراحل تقدم قوى التقنية والسياسة والتاريخ، ولكن ذلك أفضى بها إلى ما أسماه « هيدجر» ب(نسيان الكائن).
وإذا كان ذلك التوصيف دقيقاً ومنطبقاً على أحوال المدن الكبرى فإنه سينطبق على مدننا الطرفية الهامشية والمشوهة بشكل مضاعف.. ذلك أنها لم تكن مدينةً قط إلا في عنفها البائس، وأن كل ما قامت به هو طرد الكائن من ملكوتها. وقد كان عبدالعزيز يمد هذا التعبير «نسيان الكائن» إلى أقصى مداه -ولكن بطريقة عكسية- ليطال القرى التي تتعرض هي الأخرى لعمليات الإهمال أو التغيير القسري المفضي بها إلى نسيان الكائن والكيان أيضاً، وهذا ما صبغ إحساسه بالفقد ودفعه إلى الانشغال في جل أعماله على استعادة روح المكان والزمن القروي الذاهب إلى حواف المغيب.
الدمام