أتاح لي الزملاء الأعزاء في نادي الباحة الأدبي -كما هو الحال مع بقية ضيوفهم- فرصة ثمينة لمعاودة ومشاهدة منطقة الباحة من جديد. لقد شكل ملتقى نادي الباحة الثقافي للرواية هذا العام، ملتقيات أخر على هامش الرواية وما يروي الراوون، والنقد وما يروي النقادون، في الحلقات والجلسات التي انتظمت على مدى يومين، وتناولت (تمثيلات الآخر في الرواية العربية).
ومنذ أن كتبت عن الثعبان الأسود، الواصل بين الطائف والباحة، قبل ما يزيد على سبع سنين، لم أطأه إلى الباحة، لكني في رحلتي هذه إلى منطقة الباحة، لم أجد ثعباناً يفتك بالمارة، ويدمر عرباتهم كما كان من قبل، بل وجدت طريقاً سياحياً سريعاً جذاباً، تنتشر على جنباته مرافق الخدمات، ويتمتع المسافرون عبره، بمناظر الأشجار الخلابة الملتفة في بطون الأودية بين الطائف والباحة، فشكراً لوزارة المواصلات على هذا الإنجاز، وننتظر إكمال الطريق إلى أبها البهية.
جاء حفل الافتتاح جميلاً متأنقاً، فقد بهرت قاعة التعليم في البدء كافة الضيوف، وتجلى الخطباء من منبر الحفل، وتوج ذلك كله، الكلمة الضافية لسمو أمير منطقة الباحة، الأمير (مشاري بن سعود بن عبد العزيز)، الذي كشف عن ذائقة أدبية رفيعة في شخصية أمير منطقة، لا تشغله مهامه الإدارية الكبيرة، عن التعاطي مع الأنساق الثقافية المختلفة، ومشاركة المثقفين همومهم ومشاعرهم، وزادت هذه الصورة الجميلة التي أكتشفها في الأمير مشاري لأول مرة اتضاحاً وإشراقاً، ونحن نجالسه في داره، ونتحاور معه في الشأن الثقافي، بكل وضوح وشفافية.
منذ أن صعدت جبل شمرخ عشية يوم الثلاثاء (18 ذي القعدة الحالي)، فاستشرفت قرى محافظة القرى من بلاد زهران، التي تتوزع يميناً ويساراً، وتترابط حتى بوابة مدينة الباحة، قررت أن أتمرد على سلطة الرواية وسجالاتها في قاعة فندق قصر الباحة، وأن أزور ولو بعض الأمكنة القديمة التي عرفتها في الباحة منذ سنوات طويلة. في صبيحة اليوم التالي، استطعت أن أجوب معظم شوارع المدينة، لأكتشف أني غريب عنها فعلاًَ. تطورت المدينة وتوسعت، وتغيرت المعالم واندثرت، واحتجت عند عودتي إلى فندقي إلى دليل، مثلما حدث معي وأنا أدخلها عشية أمس..!
في ردهات الفندق، نظم الضيوف حلقات روائية صباحية ومسائية من نوع لا يختلف كثيراً عما يجري بقاعدة جلسات (تمثيلات الآخر في الرواية العربية). قد أسميها (تمثيلات الأنا في الرواية الآنية). رواية المشافهة المباشرة و(الكيدية) إن صح التعبير هنا، فقد بدأت شرارتها في مساء الثلاثاء، عندما أخذ بزمامها الزميل الدكتور (عبد الله الوشمي)، رئيس نادي الرياض الأدبي، مستغلاً صورة بالأبيض والأسود، نشرتها مجلة اليمامة منطلق الأسبوع، قال إنها تجمع بين (العبد الفقير إلى الله)، وهو يلبس نظارة سوداء، ويقف إلى جانب الشيخ عبد الله بن خميس، والشيخ عبد الله الشايع، ومحافظ الطائف، والمرحوم محمد المفرجي، وغيرهم في أرض سوق عكاظ قبل سنوات خلت، إبان إرهاصات بعث سوق عكاظ، وأنها تدل على أن هذا (العبد الفقير إلى الله)، ينتمي إلى جيل الخمسينيات الهجرية..! فما كان من الروائي (عبده خال)، إلا أن يلتقط رأس خيط الرواية الكيدية العجيبة، ليسألني بدهاء وخبث : هل أنا ولدت قبل توحيد المملكة أم بعده..؟! ولا أدري كيف تملص روائي شهير، من سجالات الرواية العربية الجارية في القاعة القريبة منا وهو أحد أبطالها، ليحضر سجالات أخر على هامش تلك..؟
في الصباح وفي المساء، وعلى مدى يومين كاملين، شغلت صورة الأبيض والأسود اليمامية نقاشات عدد من المثقفين في ردهات الفندق، فلاحقتني بسوادها، ولاحقوني بشراهة عجيبة، حتى بات مطلوباً مني تفسير علني على الملأ، يكشف سر الصورة اليمامية في السهرة الجماعية للضيوف في مقهى المساء، وعندما لم أجد مفراً من (التموزق) مع المأزق الذي صنعه الوشمي في البداية، ثم تابعه حتى آخر لقاء يجمعنا، نظرت في وجوه القوم أمامي، فإذا هم بين متشفٍّ ضاحك، ومتحفز ليقول ما لم يقله الوشمي قبله، وما لم يقله خال والخضري وقينان والعدواني والزهراني والغامدي واليامي وبقية أعضاء كتيبة الفرية، وهي التي تكاكأت علي في الأمسية السابقة، وصنعت من صورة الأبيض والأسود رواية عن رجل بنظارة سوداء، كان يقف إلى جانب الشيخ عبد الله بن خميس والشيخ عبد الله الشايع، وهو في واقع الأمر من الذين ولدوا أو (ازدادوا) -كما قال أديب مغاربي- قبل توحيد المملكة، أو في مرحلة ما قبل النفط، كما ورد في رواية أخرى لواحد لم يرَ الصورة، لكنه خمن فأبدع التخمينا..!
خرجت أخيراً من آخر سجالات رواية الأنا، وأنا واحد من جيل الخمسينيات الهجرية على رواية الوشمي عفا الله عنه، أو جيل ما قبل النفط على رواية خالد الخضري وعبده خال ومن اصطف إلى جانبهما في كتيبة الفرية – غفر الله لهما ولهم، لكني استطعت أن أحول الدلالة الضوئية لصورة الأبيض والأسود، التي ظلت تلاحقني في الباحة، إلى لحظة زمنية تاريخية، رسمت جغرافية سوق عكاظ عام 1418هـ، ومع ذلك لاحقتني كتيبة الفرية العمرية إلى الفندق، ولم تتركني حتى غادرت مسافراً صبيحة اليوم التالي.
هذه واحدة من صور سياحتي في الباحة. لا أنكر ذلك. كنت أهرب من سجالات ونقاشات (تمثيل الآخر)، لأجد نفسي رغماً عني في سجالات (الصورة)، ثم أنفذ بجلدي من سجالات رواية (الصورة) إلى غرفتي في الفندق، لأبحث في الكتب التي زودني بها مشكوراً نادي الباحة.
ما لم أستطع الوقوف عليه على الطبيعة، من معالم وآثار الباحة، وقفت عليه من خلال كتاب (الباحة)، الذي ألفه الأستاذ (أحمد بن صالح السياري) بالعربية والإنجليزية. هذا السفر البديع، يقدم منطقة الباحة كما ينبغي. يقدم منطقة الباحة زماناً ومكاناً وإنساناً على مر تاريخها القديم والحديث. الصور التي حشدها المؤلف عن معالم الباحة ومظاهر الحياة الاجتماعية فيها، تكفي وزيادة، والجهد المبذول في هذا السفر الجميل، تدلل على كفاءة أبناء منطقة الباحة، وتفصح عن حبهم وشغفهم بجبالها الشم، وبقراها وشعابها وأوديتها وكل شبر فيها.
محطتي السياحية في غرفتي بالفندق، وضعتني أمام نماذج شائقة من أدب وشعر وقصة ومقالة بأقلام أبناء وبنات منطقة الباحة. لو قضيت ساعات أو أياماً أطوف الباحة، لما عرفت الباحة مثلما عرفتها من خلال هذه الكتب التي أصدرها نادي الباحة، وهي أمامي الآن. (بنية القصيدة في الشعر العربي القديم) -ديوان الشريف الرضي أنموذجاً- للدكتور محمود علي عبد المعطي -(الأماني الذابلة)، ديوان شعر، لشريفة أحمد علي الزهراني- (السروي والرياح البيض)، ديوان شعر آخر لعبد الرحمن سابي، و(توقيعات شعرية)، ديوان شعر ثالث، لعبد الله بن سالم الغامدي، ثم يأتي دور القصة، فهذه مجموعة قصصية بعنوان (الصندقة) لطاهر الزهراني.
وسياحتي بعيداً عن السجالات الجمعية، التي هربت منها، تتيح لي مطالعة دورية (ودق) في عددها الأول، فوقفت على تجارب شعرية رائدة لشباب وشابات الباحة. (45) قصيدة بين دفتي (ودق) الأول. هذه أسماء الزهراني (في انتظار الذي لا يجيء) تقول:
الثواني التي غرست نصلها في ضمير المساء
أثمرت وخزة في عيون النهار
ارتوت من جنون الجوى
فاستوت قامة الوجد ماء ونار
أصلها ثابت في تخوم الحنين
فرعها في سماء الوجع
أما عادل خميس الزهراني، فيقول من (فنجان في زوبعة):
يغلي ويقضم غيظه
أحلامه ذابت.. لتصعد في شظايا أدخنة
كل الحلول تبعثرت
أولم تكن قبل انتظارٍ ممكنة ؟!
كل الدروب تضجرت
أولم تكن قبل انتظارٍ مذعنة ؟!
كل الكؤوس تنازلت عن صمتها -لما رأتها غادرت
كي تلعنه
فنجانها ما زال حائراً
ما أحزنه !
ومن جملة ما سعدت به في مطالعاتي عن الباحة في غرفتي قبل المغادرة، العدد الثاني من مجلة (الوسط التربوي)، التي تصدر عن مكتب التربية والتعليم بوسط الباحة. لقاءات ومقالات ودراسات تربوية، منها دعوة طريفة للأستاذ (غرم الله حمدان الصقاعي)، يدعو فيها إلى الضرب بالعصا..! ليس ضرب التلاميذ والطلاب بطبيعة الحال؛ ولكنه يقول: اضرب بعصاك المركزية، واضرب بعصاك الإشراف التربوي، واضرب بعصاك الإدارة المدرسية، واضرب بعصاك المعلم، ثم اضرب بعصاك الحجر..! ورأيتها بدون نظارة هكذا: (اضرب برأسك الحجر)..! ولعله قال مرة أخرى: (اضرب بعصاك مدير التعليم في الباحة)..! لكني لم أكن لابساً نظارتي وأنا أقرأ هذه الجملة بالذات..!
ومن أجمل ما قرأت في هذا العدد، لقاء مع الدكتور أحمد قشاش، يتحدث فيه عن بحث رائد أعده عن (النباتات في جبال السراة والحجاز)، وهو بحث يدل اللقاء على أهميته وقيمته، وفيه أن (450) نوعاً من النباتات موجود في جبل شدا وحده، ما يعادل (25%) من عدد أنواع نباتات بقية أجزاء المملكة كلها.
ظهر يوم الخميس، كنت أسحب حقيبتي متسللاً إلى خارج الفندق، خشية أن يراني الوشمي أو خال أو أحد أفراد كتيبة الفرية، فيصدوني، ويعقدون جلسة أخرى من سجالات الصورة البريئة. وقفت في المطل المشرف على مدينة الباحة، وأنا أردد مع صاحب كتاب (الباحة) الأستاذ أحمد بن صالح السياري هذه الأبيات الذي أوردها في كتابه، للتدليل على أن الباحة هي (الوجه الحقيقي للسياحة، وأنها محطة إلهام واستلهام):
يا باحة المجد والأبطال والكرم
وقمة الواحة الشماء والأمل
لقد غدوت كما الجوزاء في ألق
وفي سمُوًٍّ وفي نور وفي نزل
عروسة بجمال ساحر نضر
فوق السراة تناجي الحسن في الجبل
فيك الغوامد والزهران متعتهم
لقيا الضيوف بلا شح ولا ملل
والسائحين وكل الزائرين ومن
في حيهم نزلوا بالحب والقُبَل
هم الميامين مذ كانوا ومذ وجدوا
أخلاقهم قد صفت كالماء والعسل
نعم.. أخلاقهم صفت، كالماء والعسل.
assahm@maktoob.com
الطائف