فلنتفق منذ البداية أنّ من يكتب في القضايا الثقافية إنما يكتب بحس الانتماء، ولا ينتقد ظاهرة أو يناقش قضية إلا رغبة في الإصلاح بحثا عن الكمال، انطلاقاً من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني» فالمثقف يعيش هموم الثقافة ويحلم بالتأكيد بمستقبل أفضل يحقق الحراك الثقافي المنشود، ولكن ما حصل في الآونة الأخيرة مؤشر خطير لتراجع المشهد الثقافي، في حين أن المأمول منه الخروج بحلة جديدة في ظل الوعود التي عاش المثقفون لحظات ولادتها ثم انتظار تنفيذها ولكن لم تر النور بعد ومازالت قيد الانتظار، فلائحة الأندية الجديدة وقرار الانتخابات والجمعيات العمومية والمراكز الثقافية واتحاد الكتاب السعوديين والقائمة تطول، كلها تسميات رددها المثقفون كثيرا في مقالاتهم وأحاديثهم حتى أنها راودتهم في أحلامهم، وحتى نكون أكثر واقعية فإنّ خيبة الأمل التي أصابت المثقفين بعد تكرار الاستقالات الثقافية، بدءا بأعضاء ثم رؤساء الأندية ثم مجلس إدارة كامل حتى وصلت إلى قمة الهرم الثقافي خلقت جوًا من الإحباط الثقافي، وقد يقول قائل: ذاك اختيارهم عندما سدت الطرق أمامهم، هذا صحيح تلك حرية قرارهم ولكن ماذا ترك المثقف لغيره إن كان هو أول المتخاذلين عن إكمال مشروعه؟ بتنا نردد كلمة النخبة حتى توهمنا أنهم قادرون على قيادة الثقافة وإحداث التغيير في فترة تاريخية لن تتكرر إن ضاعت الآن من أيديهم بعد أن فرطوا في حسن إدارة الأزمات لصالح مشروعهم، ولا أتحدث هنا عن أشخاص بعينهم بل كل المثقفين والمثقفات معنيون بالأمر، هذا إذا افترضنا أننا جميعا نعمل لصالح النهوض بالثقافة في مجتمعنا، خاصة وأننا في سباق زمني مع التغيرات السريعة في عالم التقنية والاتصالات فنضع في اعتبارنا أن هناك من يتابع أخبار ثقافتنا ومن يقرأ لكتابنا يوميًا ما يكتبون في أعمدتهم الصحفية وملاحقهم الثقافية، وأصبح السؤال الأبرز: ماذا يتوجب على المثقف فعله للخروج من الأزمة؟
المتابع للصفحات الثقافية والتحقيقات الصحفية حول وضع الثقافة الراهن تصيبه الدهشة ليس من القضايا المطروحة فقط بل ومن طريقة معالجة مثل هذه الموضوعات، وكأنها فقط موضوعات ساخنة وعناوين جاذبة كفيلة بإثارة شهية الكتاب لممارسة النقد بكل طرقه المنهجية وغير المنهجية وكسب أكبر عدد من القراء من ناحية، ومن ناحية أخرى يجدها البعض فرصة سانحة لتصفية الحسابات وتبادل الاتهامات لإبعاد الكرة عن مرماه فقط، وفي هذه الحال فأنت أمام خيارين إما أن تكتب وتطرح وجهة نظرك فيما تراه، وإما أن تصمت لتظفر بعقلك أو لتصون اسمك عن لغط الفريقين، وحتى نكون منصفين فإنّ كلا الفريقين مخطئ، من تحدث ومن صمت، من كتب عن تلك القضايا بنقد لاذع وحمّل أشخاصًا بعينهم مسؤولية ما يحدث وكأنه بذلك ينفي التهمة عن فريق لصالح فريق آخر، وهنا يكون قد حاد عن المنهجية في معالجة القضية ونظر إلى الأسباب من زاوية واحدة، ومن صمت عن القضية وكأنها لا تعنيه فهو شريك في استمرار الأزمة الثقافية الراهنة فنحن بحاجة إلى رأي العقلاء، إنّ انسحاب المثقفين واحداً تلو الآخر مسألة تستدعي الوقوف أمام هذا المد الذي سيجرف معه أحلام المثقفين جميعًا، وعلينا فعلا البحث وراء الأسباب بموضوعية وحيادية لمعالجتها من جذورها، وربما تكون الإجابة المباشرة عند الكثيرين إنها التعيينات والحل هو في تطبيق الانتخابات، ولنفترض أنّ هذا صحيح ماذا يتعين علينا فعله؟ قالها الدكتور الغذامي في أحد لقاءاته مازال المثقفون ينتظرون تدخل الوزارة لحل كل قضاياهم! بل إننا نلقي باللوم على الوزارة وحدها وكأنها الوحيدة المسؤولة عن أخطاء الإدارة الثقافية، لا ننكر دور الوزارة في جزء من الخطأ ولكن ما يحسب لها أنها فتحت باب النقد بل إنّ الوزير فتح بابه للمثقفين والمثقفات على السواء وأعلنها في مناسبات ثقافية كثيرة « أعينوني على التطوير وإصلاح الشؤون الثقافية وأنا أنتظر مقترحاتكم حول القضايا الثقافية» فماذا حصل بعدها؟ لا نقرأ إلا النقد فقط من دون طرح الحلول والبدائل، بل أصبحت قضية الانتخابات هي المشجب الذي نعلق عليه كل ما يطرأ على الساحة الثقافية، ليس هذا هو المأمول من المثقفين الذين حملوا الهم الثقافي سنوات عديدة في زمن كانت الأنفاس محسوبة على أصحابها وحجم الحرية محدود، ومع ذلك صبروا ورابطوا حتى نهضوا بالثقافة وأصبحت الأندية الأدبية منارة للأدب والثقافة وأقبل عليها الأدباء وطلاب العلم بجموع غفيرة في بعض المناسبات، وبرغم قلة الإمكانات المادية إلا أنّ تلك الفترة تعد فترة متألقة نجح ت في تحقيق حراك أدبي فعّال تركت معاركه الأدبية والنقدية إرثًا زاخرا للباحثين وطلبة العلم، وما عليك إلا مراجعة إصدارات الأندية الأدبية في تلك الفترة لتقارنها بالحالية لتعلم أنّ الكفة ستكون لصالح الذين عملوا يدًا واحدة بحس المسؤولية الثقافية المنوطة بهم بعيدًا عن النفاق الثقافي الذي ابتلينا به فتسلم زمام الثقافة أحيانا من هو غير جدير بحملها، ولذا إن أردنا أن نكون منصفين في طرح قضايانا الثقافية ومناقشة أسباب الركود الثقافي وتراجع مؤشراته فعلينا تقاسم المسؤولية مع الوزارة، أي أنّ وزارة الثقافة تتحمل نصف الخطأ والنصف الآخر يتحمله المثقفون جميعا، فالوزارة مسؤولة عن التعيينات وتأخير تنفيذ المشاريع الثقافية المؤجلة كالانتخابات والمراكز الثقافية والجمعيات العمومية وتأخير ميزانيات الأندية؟ والمثقفون مسؤولون أيضا عن انسحابهم وتراجعهم عن القيام بدورهم في التغيير والثبات على رأيهم وعجزهم عن إقناع السلطة بما يريدون، ووقوفهم صامتين أمام إلغاء صوتهم من دون حتى محاولة الوصول إلى المسؤول وطرح الاقتراحات والتصميم على تنفيذ قناعاتهم، ثم هم أيضًا مسؤولون عن نفاقهم وهز رؤوسهم بالموافقة فإذا خرجوا تراهم يتهامسون ويتذمرون، وعندما تسلموا زمام الإدارة فشل بعضهم في حسن التدبير وأعيته قلة الخبرة، فماذا حصل من المثقفين غير أنهم جردوا أقلامهم لنقدهم من جهة وتحميل الوزارة وزرهم من جهة أخرى ليثبتوا نجاح نبوءتهم في فشل التعيينات؟ ولكن هل هذا هو الدور المأمول من المثقفين؟
أنت حين تطالع ما يحصل على المشهد الثقافي لا تكاد تصدق ما يحدث على مستوى الحدث أو طرق المعالجة وطرح القضايا، نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة حساباتنا ومواقفنا من القضايا الثقافية بحيادية حتى نصدر حكما صحيحًا، وربما المنطق يفرض علينا سرعة التحرك لتشكيل الجمعيات العمومية في كل منطقة، وذلك ليس بالأمر الصعب فمثقفي كل منطقة يعرفون بعضهم أكثر من الوزارة نفسها، أم أننا لا نؤمن بالعمل التطوعي وننتظر تقاضي أجرا مجديًا لنقوم بأمر حان وقته لتحقيق مصلحة عامة، ثم إنّ تشكيلها سيضع الوزارة أمام اتخاذ القرار فورًا، فلا تراجع أمام إرادة المثقفين بالتغيير، عندها يحق للجميع محاسبة الوزارة على وعودها، ثم إننا بحاجة إلى دعم بعضنا حتى نحقق أحلامنا بعيدًا عن الأنا التي سادت المشهد الثقافي فقتلت طموح الجادين. نستطيع صياغة حلول جذرية للأزمات الثقافية وإعداد مذكرة برؤية المثقفين ترفع إلى الوزير مباشرة لدراستها ومن ثم اعتماد أفضل ما ورد فيها بعد تداول الأمر مع المثقفين أنفسهم، ولكن بشفافية.
وصدق ومن ثم متابعة التنفيذ وبعدها ستكون الوزارة مسؤولة أمام المثقفين والكتاب عن تنفيذ مطالبهم، سيقول بعضنا: لا جدوى من ذلك فقد طالبنا كثيرًا باتحاد الكتاب على سبيل المثال وعلق أمر تنفيذه إلى أجل غير مسمى، وأنا معكم أريد اتحاد الكتاب وغيره من المطالب أن ينفذ ولكن علينا الأخذ بالأسباب ومواصلة العمل بالتعاون مع بعضنا حتى يتحقق ما نريد، هذه الوزارة الجديدة وعدت بالكثير فعلينا أن نجتهد ولا ننتظر السماء أن تمطر فهي «لن تمطر ذهبا ولا فضة» إذا تحركنا فنحن من سيشكل الجمعيات العمومية ونحن من سنحل أزمة الانتخابات فقط إن كانت لدينا إرادة، ونحن على ثقة بأنّ الوزارة ستقف مع المثقفين وتنفذ وعودها المؤجلة، فهل ستنتصر إرادة المثقفين أم ستستمر حالة الركود الثقافي التي لن نصحو منها إلا على حسرات ضياع هذه الفرصة، وسنظل نكتب رثاءنا للثقافة ونعلق أخطاءنا على الآخرين، ونبرر فشلنا بقلة الدعم، فالنجاح لا يعد نجاحًا إن لم تنتزعه من أنياب الصعوبات، وليس بلوغ المجد سهلا لمن أراده...
لندن