انطلاقاً من التقسيم المستقى من المنقول المنطقي للقضايا فإن القضايا (المشهورة) مدرجة تحت لافتة القضايا (الظنية)، أي أنها لا تنطوي -كما يقطع بذلك الفكر الفلسفي- على وافر حظ من (اليقينية)، وقد أشبع ابن تيمية تلك المسألة تناولاً وأفاض مطنباً في تفنيد ملامحها واستئصال شأفتها وإماطتها بالتالي عن ميادين المعرفة المنطقية في كتابه المشهور (الرد على المنطقيين)، وقد قرر تضاؤل حصتها من القيمة المنهجية وبالتالي طوّح بها غير مأسوف عليها خارج الجغرافيا الموضوعية وفي مفاوز اللامعرفة وذلك عبر الأدلة التي سأرقمها كما يلي:
أحدها:
أنه إذا كانت المجربات من الضرب اليقيني فإن المشهورات من باب أولى ولذا يقرر أنها «من أعظم اليقينيات المعلومة بالعقل ويطلق على هذا النوع من القضايا اسم المشهورات أو الآراء المحمودة مثل كون العدل حسناً والظلم قبيحاً والصدق حسناً والكذب قبيحاً» (الرد على المنطقيين ص423) وبما أنها من قبيل اليقيني فإنها «من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان» (الرد على المنطقيين 2-158).
الثاني:
أن المشهورات يجري ملامستها وعياً عن سبيل الجِبلّة كقاسم مشترك بين الأنام طُرّاً فهي كلي عام، بل من اللوازم البشرية التي لا مندوحة لأحد منها حيث الإنسان طبع على استمراء الجنوح نحو الخلال والسمات المتموضعة في دائرة الفضائل كما أنه يبدي بذات القدر نفوراً من الوجه النقيض فيتحاماه ويضرب صفحاً عن غشيان حقله وما ذلك الشعور الذي ينتاب المرء ويدب في أوصاله على نحو يشعر معه بزخم على صعيد الأمان الوجداني إلا مؤشر قوي يبرهن على تلك الحقيقة التي أيضاً عندما تتخلف بواعثها يضحي المرء جراءها ضحية لضروب مكثفة من النصَب الروحي والوصَب الوجداني يقول ابن تيمية في هذا الصدد: «الناس إذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا أن العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه تحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس. وإذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به أنه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وأنه بغيض يحصل به الألم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم أن هذه القضايا (يقصد القضايا المشهورة) هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة أعظم من أكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء ثم يتساءل ابن تيمية تساؤلاً إنكارياً قائلاً: «فلم كانت التجريبيات يقينية وهذه التي هي أشهر منها وقد جربها الناس أكثر من تلك لا تكون يقينية» ثم يشير إلى أن المشهورات أشهر من المجربات لعوامل ثلاثة: «أن المجربين لها أكثر، وجزئياتها في العالم أكثر من جزئيات تلك» (يقصد أن المعاني المندرجة تحتها أكثر من الأحكام التي تندرج تحت المجربات) وأن المخبرين بذلك عنها أيضاً أكثر وأعلم وأصدق» (المرجع نفسه 2-155).
الثالث:
مستوى التقاطع البشري على القضايا المشهورة أجلّ سوية من تواضعهم على كافة ضروب القضايا التي ثمة تسليم فلسفي قاطع بيقينيتها، فالإنسان بمكنته يدرك القضايا الجزئية مع أنه لا يستصحب على مستوى الوعي ذلك المبدأ المنطقي الكلي الذي تنضوي تحت لوائه، بينما يتعذر أن يحيا الإنسان على وجه هذه المعمورة من غير أن يتعاطى مع المعاني الأخلاقية والقيم الروحية (المشهورات) بالتحسين لما استثنى (من السناء والرفعة) البشر قيمته أو التقبيح لما استرذلوا جنسه مثل حمد الصدق وذم الكذب وبشاعة الخيانة وجمال الأمانة، ومن هنا يقول ابن تيمية: «إن هذه المشهورات من أعظم اليقينيات فإنها مما اتفقت عليها الأمم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه أعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زماناً ولا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادئ العلم كقول القائل: النفي والإثبات لا يجتمعان وإن كان يعلم أن هذا الشيء المعين إذا كان موجوداً لم يكن معدوماً لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه، فإن هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لأكثر الناس، بل يصدفون عنه ولا توجد طائفة إلا وهي تحسّن العدل والصدق والعلم والإحسان وتقبح ضد ذلك» (2-156).
فإذا كان أكثر الناس قد لا ترد على ذهنه القضية الكلية العقلية فإن تحسين المحمود وتقبيح المذموم لا يوجد أحد ولا طائفة إلا وهي تقول بها إذ هي لازمة بشرية لا يتصور مفارقتها بحال. وهكذا فمما سلف تناوله نخلص إلى الموقف التيمي من المشهورات وأنه يتعاطى معها -بخلاف الغطارفة المتمنطقة - بآلية تحتفظ بقيمة فكرية متماسكة فهو يتعاطى معها بوصفها من جملة القضايا الواجب قبولها وأنها مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات، بل هي أبلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في الذوات البشرية قاطبة أعمق من العلم بكثير من المجربات والمتواترات.
Abdalla_2015@hotmail.com
- بريدة