في غمرة الذهول عن واقع اللغة العربية التي تئنّ تحت وطأة جحود بعض الأبناء وجهل بعضهم، وتشكو كيد المبغضين، وتهافت المرجفين خرج صوت الأمير خالد الفيصل عذباً مدوّياً!! وهل تجتمع العذوبة والدوِيّ؟ نعم فدويّ النحل عذب في أذن النحّال، ودوِيّ المدفع كالنغم في أذن الجندي الشجاع، ودوِيّ الدعاء والتضرّع سكينة لقلوب المصلين الخاشعين.
قال خالد الفيصل كلمته بين أيدي العلماء والمثقفين في مكة المكرمة: لماذا تُسمّى القاعة باسم غير عربي وهي في بلد عربي ويُقام فيها نشاط ثقافي ترعاه مؤسسة عريقة كالنادي الأدبي؟ ثم أعلن قراره الحكيم: (غيّروا كل اسم أجنبي وأبدلوا به اسماً عربياً) وجعل المهلة ستة أشهر كما جاء في مصدر الخبر.
إن هذا الموقف المضيء يتمّم مواقف أخرى مضيئة للأمير خالد، فقد سبق أن أمر بتطبيق مشروع المدرسة الفصيحة في عسير، وأحيا سوق عكاظ وجعله حياة للفصحى، وأشار في أكثر من موقف إلى ضرورة الاهتمام باللغة ورعايتها.
وقرار الأمير خالد الفيصل يأتلف مع نظام الدولة ودستورها، وللمقام السامي توجيهات قديمة وحديثة تتلقاها الوزارات والمؤسسات الحكومية منها والخاصة حول أن (اللغة العربية) هي لسان هذه البلاد، وأنه ينبغي إحلالها محلها اللائق بها، وأن الإساءة إليها توجب العقاب والغُرم.
ولكن الوزارات المعنية بمسألة العربية واحترامها غافلة عن المتابعة، وكل الوزارات والدوائر الحكومية معنية بها، ولكني أخص ما كان له صلة أوثق بحماية العربية والعناية بها، وأعني وزارة الثقافة والإعلام ووزارة التجارة ووزارة الشئون البلدية والقروية وأمانات المناطق والغرف التجارية والبلديات، فهذه الجهات ذات مساس بموضوع اللغة أكثر من غيرها، ولبعض المسؤولين فيها من الغيرة والحمية والحرص ما هو معروف، ولكنّ أكثر القائمين عليها يجهلون أو يغفلون عن قضية من أهم القضايا وهي العناية باللغة القومية وعدم السماح لأي لغة أخرى مهما كانت بمزاحمتها.
إن اللغة القومية في أعراف الأمم المتحضّرة هي من أكبر مظاهر الهويّة وهي أهم دواعي بقائها وتماسكها، وهي الحصن الحصين تجاه الاختراق والذوبان في الآخر، وما من أمة محترمة في عالمنا المعاصر تتجاهل لغتها أو تقبل أن تُحِلّ مكانها غيرها، مهما قلّ عدد المتحدثين بها، واللغة العِبْرية أصدق مثال، فقد أحياها مؤسسو إسرائيل وجعلوها لغة التعليم والثقافة والإعلام في نحو ستين عاماً فقط بعد أن كانت لا تتجاوز المعابد ولا يفهمها أحد. أحيوها بعد أن كانت رميماً!! ألم يكن من الأسهل على مؤسسي الدولة العبرية اعتماد الإنجليزية لغة للشعب الذي جُمّع من كل حدب غير حادب وصوب غير صائب؟ نعم هو أسهل لو كانوا لا يريدون بناء هوية واحدة من خلال لغة واحدة هي عندهم من أهم ما يجتمع عليه اليهود وجدانياً. ولن أسترسل في ضرب النماذج على أهمية الهوية والحفاظ عليها في عالم متقلب متلوّن لا يعترف بالضعفاء ولا يقيم قيمة للمتقولبين والمتشكلين والمتخثرين فهذا أمر صار من بدهيات الكلام في مثل هذه المسائل.
وأعود إلى قرار الأمير خالد الفيصل -زاده الله تسديداً- وأتساءل: إلى كم نحتاج من طبقته حتى يرتفع مستوى الوعي بالهوية في مجتمعاتنا العربية؟ وهل بلغ الأمر بالتجار وأصحاب الشركات والمؤسسات بل حتى أصحاب (البقالات) و(السباكين) أن صاروا لا يعرفون معروفاً لغوياً ولا ينكرون منكراً، ولا يكون عندهم من المعرفة والوعي ما يردعهم عن الانسياق وراء مظاهر خادعة من التشبه بالأجنبي بل حتى من الانبطاح له؟ ومن أوصلهم إلى هذا المستوى الضحل؟ وكيف يمكن ردّهم إلى الجادة؟ وهل صار الأمر صعباً إلى درجة أن يتدخل أمير المنطقة ليُذكّر بالخطأ وينهى عنه ويأمر بتغييره؟ ألم يكن عند المسؤولين في الجهات المذكورة أعلاه من النُظُم والقوانين ما يجعلهم يسيرون على صراط مستقيم من الفصاحة والصحة والصواب، وما يدفعهم إلى إلزام الجميع بالسير على ما تريده الدولة من الحفاظ على اللغة؟.. بلى فكل القوانين مسطورة، والتذكير بها من المقام السامي -كما أسلفت- متواتر متتابع، ولكنهم مشغولون عن تطبيق ذلك لأمور أجهلها!
وليت القضية وقفت عند هذه الأسماء التي أقل ما فيها أنها تدلّ على ضعف الشخصية وانهيار المناعة وهي الأسماء التي ارتضاها التجار لمجمعاتهم التجارية وأسواقهم وشركاتهم حتى صار المتسوّق يشك: أهو في بلد عربي أم في بلد ناطق بالإنجليزية؟ لقد تجاوز الأمر ذلك بأن أصبحنا نرى إعلانات تغطي واجهات بعض العمائر مكتوبة بالإنجليزية لا غير في قلب الجزيرة العربية مهد الفصحى! وأصبحنا ندخل بعض المؤسسات فلا نستطيع التفاهم بغير الإنجليزية المكسّرة أو العربية المهشّمة! إلى أمور ومظاهر أخرى لا تغيب عن عين اللبيب البصير.
لقد ابتهجتُ بقرار الأمير خالد الفيصل مثلما ابتهج به كثيرون قرأت تعليقاتهم في بعض الصحف والمواقع والمنتديات، وسرّني كما سرّهم أن يأتي التنبيه والتغيير من أحد رموز البلاد في الفكر والإدارة، وأودّ أن أتوجّه لسموه الكريم بأن يتبنى القضية وأن يوليها من حرصه وصرامته المعهودة ما هي في أمسّ الحاجة إليه. وما أحراه بأن يكون ناصر العربية في زمن قلّ فيه الأنصار.
*عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية بالرياض، الأمين العام السابق لمجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للغة العربية