عندما يقف الفنان أمام اللوحة يشعر بفضائها الرَّحب ذي الأفق البعيد، يشعر بالقلق والخوف من المرحلة التالية في تنفيذ الفكرة، حيث يبدأ حوار متسم بالشفافية والرغبة في أن يحتضن كل منهما الآخر، ليتحوّل الحوار إلى البحث عن كيفية السيطرة على ذلك البياض الناصع واحتوائها للعناصر، وإمكانية إيجاد توازن بين مختلف الجوانب التي تشكّل البناء العام نتيجة الاتفاق النهائي بين ما كانت عليه تلك المساحة، وبين قدرة وإمكانية الفنان وأدواته في ترويضها، وإحالتها إلى عالم مليء بالألوان والخطوط والكتل وإيحاءات الظل والنور بأي من الأساليب أو الطرق المتعارف عليها، أو ما يبتكره الفنان للتعبير بها عن أبعاد فكرته.
مساحتنا اليوم تزدان بعدد من اللوحات التي يجمعها قاسم مشترك، هو فضاء اللوحة وكيفية إيجاد التوازن مع أقل مساحة أو عنصر يمثل الكتلة، وهو حوار أزلي استطاع البعض أن يوجد له حلولاً، والبعض يصعب عليه تجاوزه أو السيطرة عليه، إلاّ بقدرات عائدة إلى بحث وتجريب للعدل بين الكفتين، لإحداث التوازن بتطبيق كل مقومات بناء العمل بأقل العناصر وأقل الكتل، والاعتماد على التلميح والإشارة.
فالفنان هنا يشعرك بأنه يرى الواقع فضاء رحباً، كما ينظر إلى السماء في ليلة اكتمل فيها القمر في فضاء لا متناهٍ، ينغمس فيه بالأحاسيس ويذهب بعيداً بحرية بصرية ومختزل جمالي شفاف إلى شكل مطلق ولون خالص.
في الأعمال التي نشاهدها اليوم تطرح لدى المتلقي الكثير من التساؤلات لعدم تبعيّتها للمعهود من الأعمال التجريدية ذات العناصر المتراكمة أو الكتل المزدحمة، أو الاعتماد على اللون القاتم لإظهار أقل العناصر أو حبس الضوء في جزء منها، فهنا يختلف الآمر إذ إنّ المساحة المضيئة هي بطل اللوحة، وهي الأبرز وهي المتحكمة في قبول ما يتبعها من عصر مهما كان قليلاً، لكن الأمر يرجع لقدرة الفنان على هذا الاختزال والبسترة، فقد اختفت قواعد أو أشكال البناء التقليدية خلف النتيجة.. بمنهجية جديدة. تجمع بتلقائية عفوية بين علم النفس والفلسفة.. أقرب إلى الانفتاح والغوص في علم فلسفة الجمال.. ينطلق بها الفنان من حدود مغلقة بسياج الكلاسيكية أو الواقعية إلى محاولة البحث عن معانٍ محددة.. وموضوعات ذات معنى أعمق بأقل العناصر.
هذا التوجه أو أسلوب التعبير، انتهجه الكثير من التشكيليين على مستوى العالم وامتد إلى عالمنا العربي، حيث نرى في الكثير من المعارض أعمالاً رائعة التعبير راقية التنفيذ، تحمل حساً ورهافة تكوين وشفافية لون، أبدعها فنانون من مختلف الأجيال، منهم من أمسك بزمام الريادة، ومنهم من يبحث عن خصوصيته، وبين هذا وذاك يبقى الفضاء الرحب في اللوحة مساحة للتحليق بسمو نحو أكثر العناصر حرية وتألقاً.
monif@hotmail.com