يكاد يعدم «الذام» - الذي لا تعدمُه الحسناء - لدماثةِ خلقه، وجميل تعامله، وطيب سيرته وسريرته كما يعرفه الأدنَوْن والأبعدون، وحين كان ذا كرسي رسمي قصده الجميع؛ فمن له مطلبةٌ حققها، ومن له مشكلةٌ حلّها، ومن غضب أرضاه، ومن ضاق أسلاه، ومن سُدّت في وجهه أبواب فَتح له كوةَ أمل.
قبل بضعة عشر عامًا كاد زميل إعلاميٌ يفقد وظيفته لتأوّلٍ رقابي ذي أوجه، واستطالت القضية بأبعادٍ غير مألوفة، لكنه طمأنه وطلب منه المُكْثَ في بيته، ثم بذل وجهه وجاهه ولاتَ موسمُ ضيق، وعادت فرحة الصديق.
غاب عن الواجهة منذ زمن، وبقيت ذكراه تتجدّد وتتمدّد، ورغم عمله الأهم داخل دوائر الضوء فما عهدت له صورٌ وإطارات، وتصريحات ومقابلات، وبقي على سمتِ «الرعيل الأول»؛ يعطي بصمت؛ فلا تستثيره العدسات والفلاشات، وربما ناب عنه في حضوره عاشقو الشهرة فما أبه بها ولا بهم؛ راضياً بعليائه النائية عن الصغائر والصغار.
مدرسةٌ إدارية متنوّعةٌ؛ فقد عمل في التعليم والبعثات والملحقيات الثقافية والإعلام والشورى، ووضع بصماتٍ مميّزةً فيها، ويكفي أنْ كان له قصب السّبق في مأسسة فكرة ابتعاث الطالبات السعوديات للخارج، وتحديدًا حين كان في الباكستان؛ فهيأَ لهن السكنَ والنقل والمتابعة ليكملن تعليمهن في «لاهور» ويعُدْن طبيباتٍ متخصصات.
كافح بعصاميةٍ نادرة؛ فقد درس الابتدائية والمتوسطة ثم توقّف عن الدراسة عقدًا من الزمن وعاد إليها ليحصل على الثانوية العامة والترتيب «الخامس» على مستوى المملكة، وعلى الشهادة الجامعية في العلوم الاجتماعية؛ مواصلاً عمله الذي ابتدأه من مديرية المعارف العامة، مرورًا بمراقبة البعثات في مصر، وإدارة البعثات الخارجية في وزارة المعارف، والملحقيات الثقافية في «إيران وباكستان وتركيا والعراق والكويت وألمانيا ولبنان وسوريا» وانتهاءً بوكالة وزارة الإعلام للشؤون الإدارية وعضوية مجلس الشورى في دورته الأولى.
انتمى لعالَم الصِحافة في جريدة «البلاد»، وعمل في أقسام التصحيح والتبويب، ونَشَر بعضَ المقالات، وكان حُلْمه «المبكرُ» أن يكون صحفياً، فارتقت به همّتُه ليكون مرجع الصحافة والصحفيين في جانب رسمي «هو الأقل» وجانب غير رسمي هو الأهم والأبرز بوصفه قريبًا لهم، حفياً بهم، حريصًا على حلِّ مشكلاتهم خلال فترةٍ آمنت بضرورة «عسكرةِ الإعلام»؛ فما تعسكر ولا تكبّر، وكان مكتبُه وقلبه وعقله مفتوحًا من أجل متابعةِ كل ما له علاقةٌ بشؤونهم وشجونهم، واهتمّ بتشجيع الناشرين والمؤلّفين السعوديين، كما يروي مجايلوه..
الشيخ إبراهيم قدهي القدهي (1353 هـ - مكة المكرمة) تقاعد مطمئناً إلى ما أنجز، متفرغاً لأسرته وقراءاته في التاريخ والأدب والمذكّرات السياسية والقضايا الشرعية.
أبو فهد أهدى مكتبتَه الخاصة لمركز «صالح بن صالح الثقافي الاجتماعي» في عنيزة؛ وهي مكتبةٌ ثريّة أفرد لها المركزُ جناحًا خاصًا في قاعة المكتبات المهداة، إلى جانب مكتبات الأستاذ صالح بن صالح والشيخ عبدالعزيز المساعد والأستاذ إبراهيم الحسون والأستاذ عبدالملك البسام وآخرين؛ فلم يستأثر بما جمعه طيلة عمره المديد ليعم نفعُها أهلَه وناسَه.
يبقى أن على الشيخ القدهي ومماثليه من ذوي المواقع الإشرافية المهمّة رصدَ تجاربهم الإدارية وتوثيقها ليفيد منها دارسو التأريخ الإداري ويقرؤوا ما لم يكتبه الإعلام الرسمي.
الذِّكر ثراء.
Ibrturkia@gmail.com